ضوء “الضاد” وشعرية رياض عبد الله يوركي حلاق
حلب – غالية خوجة
تتميّز لغتنا العربية، من مجمل ما تتميّز به، بحرف “الضاد” الذي لن نجد له مثيلاً في لغات أخرى، وأول ما نفكر به مع هذا الحرف هو ضوء وضياء، أي أن لغتنا العربية ضوء ونور وكشف وبيان وتبيان، وهي أحد أهم ما تجمعنا كعرب وناطقين بالعربية؛ وربما، لأكثر من ذلك، اختار عبد الله يوركي حلاق أن يُسمّي مجلته “الضاد”، عام 1931، لدلالات هذا الحرف وجمالياته المنبثقة من لغة العروبة وحضارتها وإشعاعها المتميّز المستمر في الديمومة، كونها لغة صامدة ومتحدية ومنتصرة على مرّ الحقب والأزمنة والحروب وأشكال الاستعمار المتنوعة التي حاولت أن تؤثر فيها سلباً لمحو الهوية والانتماء، لكن العربية انتصرت وتركت آثارها على لغات أخرى مثل الإنكليزية والفرنسية والتركية.
“الضاد” تراث ثقافي معنوي إنساني
تركت هذه المجلة آثاراً عميقة الحضور في المشهد الثقافي الحلبي والسوري والعربي لأسباب مهمّة، منها تنوعها ومصداقيتها ومضمونها الثقافي الجاد الذي قاد الحركة الثقافية لمدة 90 عاماً رغم جميع الظروف، وقبل أن تصل المجلة إلى الاحتفال بمئويتها يغادرنا إلى حياته الأخيرة رئيس إدارتها، وابن مؤسّسها، الكاتب رياض عبد الله يوركي حلاق الذي ترأسها منذ عام 1962 إلى يوم وفاته في بيروت، هو المولود في حلب عام 1940، والتي يعود إليها ليدفن فيها، ولد في السنة التاسعة لتأسيس المجلة وتوفي في السنة التسعين من عمرها، ومن أقواله: “أعتز بأني مدين لوالدي بحب الفصحى والأدب والعروبة، فلقد زرع في قلبي منذ صغري بذور المعرفة، وجعلني أعشق الكتاب، واُكبُّ على المطالعة ليلَ نهار، ووضع بين يديّ كتباً تمتاز بالأسلوب السهل المشوّق والمعنى الجميل الجذاب”.
ويشهد التاريخ على كلمات والده عميد الضاد عبد الله يوركي حلاق الذي حاز وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى عام 1993، ومآثره التي غرسها في ابنه والأجيال، ومنها هذه الأبيات: “عانق المسلمون أبناء عيسى، والنصارى قد عانقوا الإسلام، فليمتْ زارعُ الشقاق فإنا أمةٌ، تأبى أن تموت انقساما”.
وضمن هذه الأجواء نشأ رياض حلاق في بيئة حلبية واجتماعية مثقفة قارئة وناشرة في زمن مرت عليه الحرب العالمية الثانية وحروب أخرى، آخرها العشرية الظلامية الإرهابية، وعنه قيل الكثير، ومما قاله العلامة الحلبي الأديب محمود فاخوري رحمه الله: “الأديب رياض عبد الله حلاق لم يدلف إلى ميدان الكتابة إلا بعد أن هيّأ نفسه له، وأتقن أدبيّات اللّغة العربيّة ومسالكها، وأحبّها حبّاً جمّاً أخذَ عليه تفكيرَه، واسْتأثرَ باهتمامه ولا غرْوَ، فقد تربّى على عينيْ والده الأديب الشاعر عبد اللّه يوركي حلاق مُؤسّس مجلّة الضّاد”.
ورحّب به الشاعر القروي رشيد سليم خوري في قريته البربارة برباعية نقتطف منها: “أتتني الضاد حاليةً برسم، يتيه به السواد على البياض، فجدّد لي خيالك أنس يوم، يساوي كل أيامي المواضي”.
بينما قال عنه الشاعر اللبناني ناجي نعمان: “الشهباء تخسر جزءاً إضافياً من ذاكرتها، رياض حلاق يلتحق بوالده عبد الله يوركي حلاق، و”الضاد” فيها تتيتّم”.
غنائية اللحظة الشعرية
اتسمت قصائده بالوزن الخليلي، وكلاسيكية الصورة الشعرية، واهتمّ الشاعر رياض حلاق بالثيمة الموضوعية، والوظيفة التوصيلية للغة، وبفنيات متناغمة مع الطبيعة ووجدانياتها، وشعرية اللحظة الغنائية الشفيفة وهي تجذب القارئ إلى المشهد الشعري الرومانسي، والتعبيري، والمألوف، والخيالي، كما أنه يترك لقصيدته أن تصير حواراً أو قصة أو حكاية، واثقاً برسالة الشعر الوطنية والأخلاقية، ومن أبياته في “المعلّم”: “قل للمعلم إن ذكرك باقٍ في دولة الآداب والأخلاق.. أنشأت جيلاً للثقافة والنهى وبدّلتَ ليل الجهل بالإشراق”، بينما يخاطب المتلقي في قصيدة أخرى عن أهمية ممارسة القراءة: “اقرأ فأعلام الهدى القراء هل يستوي العلماء والجهلاء؟”.
بينما يرافقه عشق حلب المعتّق أينما كان، وهنا، نذكر كيف كان في فنزويلا عام 1998، وكتب قصيدة “إن الولد سر أبيه”: “أتيت من حلب الشهباء يحملني حبي المصفى ويحدوني إلى السفر .. والأهل والصحب في الشهباء كلهم شوق إليكم إلى القيثار والوتر”.
من سيرته الملفتة
درس الحقوق في جامعة حلب، ودرّس اللغة العربية في عدة مدارس رسمية وخاصة بين عامي 1963 -2001، وقدّم محاضراته الأدبية والفكرية في المراكز الثقافية بحلب والمحافظات السورية، والوطن العربي والمهجر الأميركي ومعظم دول العالم، وفي منتديات وإذاعات وتلفزيونات الدول العربية ولاسيما الكويت وبعض الدول الأجنبية، شارك في عدّة مؤتمرات أدبية وفكرية، وأقام العديد من الأمسيات الشعرية، وقابل معظم رجالات الأدب والفكر والسياسة والدين في الوطن العربي والمهجر، ونشر في أغلب الدوريات العربية والمهجرية.
نظم الشعر العربي الأصيل منذ يفاعته، وكتب العديد من القصائد الوطنية والوجدانية والغزلية وألقاها في الكثير من المناسبات والمؤتمرات، كما تُرجمت بعض قصائده إلى لغات عديدة، كتب القصة والمقالة، يهوى الأرشفة، وهو عضو في العديد من الجمعيات الثقافية والخيرية والفنية في حلب وسورية، عضو في جمعية العاديات، وفي اتحاد الصحفيين العرب منذ تأسيسه في سورية عام 1969، عضو في مجلس مدينة حلب لدورتين، كرّمته وزارة الثقافة في 10 حزيران 2010 في حفل كبير أقيم في مديرية الثقافة بحلب، منحه غبطة البطريرك غريغوريوس الثالث لحام وسام صليب القدس، حاز جائزة الأديب “متري نعمان” للدفاع عن اللغة العربية وتطويرها – لبنان 2009، ونال جائزة عكاظ الشعرية عام 2009، وحاز جائزة الباسل للإبداع – حلب، ضمن محور الدراسات الفكرية عام 2011.
مؤلفاته المتنوعة
تعدّدت إصدارات الراحل رياض حلاق ومنها: “دراسة نقدية في أدب الدكتورة سعاد الصباح” عام 1994، و”من نوادر الضاد” عام 1995، و”ثمار الضاد في رحلة العمر” بمناسبة مرور اليوبيل الماسي على انطلاقة “الضاد” 2007، و”عبد الله يوركي حلاق في معابر الذكرى والوفاء” 2007 لمرور 10 سنوات على رحيل والده عميد الضاد، ومجموعة شعرية “من حصاد السنين” منشورات جوائز ناجي نعمان الأدبية – لبنان / سلسلة الثقافة بالمجان 2009، و”وجوه عرفتها”، و”رحلة العمر في أدب الرحلات” منشورات مجلة “الضاد”، وديوان شعري كامل بعنوان “حصاد السنين” وهو مجموعة قصائد عمودية في الوطنية والغزل والرثاء والوجدانيات والمناسبات، وكتاب نثري بعنوان “قطاف الأربعين”.