الحراسة الأخلاقية..!
أفزعتني، إلى حدّ الألم البارح، هذه الآراء المنسوبة إلى الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، وهي آراء قادحة وظالمة وقاسية تجاه الشاعر العراقي بدر شاكر السّياب، تكرّرت قولاتها الآن بمناسبة رحيل السّياب، وكلّها تقريباً تؤكّد أنّ شعراء ومثقّفين ونقّاداً سمعوها من البياتي نفسه، وأنّه كان يتفاخر بذكرها مراراً، وليس فيها سوى ثنائية ملتبسة غايتها الحطّ من قدر السّياب، ورفع قدر البياتي.
كنتُ أعرفُ بعض هذه القولات لكثرة شيوعها، ولكنني ما كنتُ أعرف هذه الكميّة الهائلة من الكذب والصفاقة والقدرة الوحشية على دك حصن الشعر الجمالي والمدهش الذي شيّده السّياب بموهبته وثقافته ويقظته الضافية الحارسة للكتب، وسعة مخيلته؛ إنّها قولات ذات حمولة بائسة ومخجلة وملأى بالأغلاط والأخطاء الأخلاقية، ولا نريد لها أن تقال أو تذكر أو تتكرّر في المجالس الثقافية، وفي المنابر العامة لأنّها خالية من الإحساس البشري، وخالية من أبسط أعراف الأخلاقيّات العامة، وذكرها، ولو على سبيل التهكّم، مرفوض وغير مجد، وفيه توحّش لا تطيقه الآداب والفنون.
لقد قيّضت لي الظروف أن التقي البياتي حين جاء إلى دمشق، وهو شاعر كبير، له سيرة شعرية رحبة فيها الكثير من التعب والإبداع ونشدان الأحلام، وقد تحلّقنا حوله بوصفه واحداً من شعراء الحداثة العربية، لأنّ الحداثة لم توجد على يد شاعر واحد فقط؛ الحداثة صنيع عقول وتشوّفات وثقافات؛ هي نار أضاءها حبر كثير، وخيال نافذ، ولكن البياتي، وفي جميع جلساته التي كنتُ حاضراً فيها، أراد أن يقول :أنا من كتب القصيدة العربية الحديثة، وأنا من صاغها، ولم يكن السّياب أو الملائكة أو الحيدري أو جبرا..سوى متفرّجين على ما أكتبه وما أُبديه من تقنيات!
بل كان يقول كلاماً ثقيلاً، لا أريد نقله إلى هنا لأن فيه أنفاس الاستعلاء المجاني غير المؤيّد على الإطلاق، وكنتُ، مثل غيري، أظنّ أن حمّى الشعر وأجنحته السود هي التي تجعل البياتي يقول ما يقوله بحقّ السّياب تحديداً، وهي التي تمدّ المسافات بينهما، فتجعل البياتي متقدماً وبادياً، والسّياب متأخراً ومضمراً؛ ولم أغادر هذه القناعة يوماً، لكنني وفي هذه الآونة، أدركتُ الحجم المهول لتقولات أخرى يذكرها شعراء وأدباء ونقاد العراق عن علاقة البياتي بالسّياب، وهي علاقة سيئة جداً، وفيها صخب مفتعل، وكذب واضح، واستعلاء شائن يطير بأجنحة الغرور، ولهذا رحت أتساءل، مع غيري، ما الفائدة من هذا كلّه؟ وهل هذا يكتب تاريخ الحداثة الشعرية العربية؟ أو يكتب سيرة شاعرين لهما مكانة رفيعة، وثقل شعري وازن؟ لا..هذه التقولات عهن منفوش فحسب.
بلى، لا جدوى لمثل هذه التقولات لأنها لا تضيف إلى قصيدة البياتي أو السّياب شيئاً، ولا تنقص من جمالياتها شيئاً أيضاً؛ فالسّياب، اليوم، شاعر طويل، قدماه في الأرض، ورأسه بين الغيوم، شاعر فتوحات في القصيدة العربية الحديثة، ولا ينكر موهبته أو حداثته سوى من رضي بالجهل والجحود رفيقين، والبياتي شاعر صاحب مكانة عالية، ولكن حظوظه في القول خانته حين راح ينعى على السّياب شاعريته وأهميته في افتراع دروب الحداثة، بل خانه القول أيضاً حين ارتجل كلاماً ضريراً بحقّ شعراء عرب آخرين كي يحطّ من قيمتهم!
أجل إن علاقة البياتي بالسّياب، وقد درسا معاً في دور المعلمين العليا في بغداد، وما تفصح عنها هذه المكاشفات ليست في صالح القصيدة العربية، وهي علاقة أشبه بالمرآة التي ترينا أن القصيدة الجميلة هي الباقية، وأن كلّ ما ضافها من التقوّلات ليست سوى هوامش لا غير، هي الحاضرة البادية، أما الهوامش فإلى زوال وبهوت، وأنّه لابد من الحراسة الأخلاقية للتجارب الأدبية والفنية لكي تنجو من القيل والقال لأنّ فيهما من الشرور ..الكثير!
حسن حميد
Hasanhamid55@ yahoo.com