مجلة البعث الأسبوعية

تركيا و”إسرائيل”.. إعادة توثيق العلاقات الاستراتيجية على حساب القضية الفلسطينية

البعث الأسبوعية- د.معن منيف سليمان

دفعت التطورات الإقليمية والدولية كل من تركيا و”إسرائيل” إلى إعادة تقييم العلاقات الاستراتيجية وتوثيقها بينهما في سبيل تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر بعد عهد من شبه القطيعة السياسية. فمن المتوقع أن تشهد العلاقات بين أنقرة وتل أبيب تحسنّاً ملحوظاً في الأيام القليلة المقبلة خاصة بعد خطوات “حسن النية” التي أبداها أردوغان مع الإسرائيليين. ولا شك أن التقارب بحلته الجديدة بين الجانبين سيكون على حساب المواقف والرؤى في مجمل قضايا المنطقة ومنها القضية الفلسطينية، ذلك أن “إسرائيل” تعدّ القدس عاصمتها التاريخية والقبلة الوحيدة لليهود، وهذا الشيء يفرض على أنقرة عدم التحفظ على ملفات مهمّة تتعلق بالقدس وغزة، إذ أن “إسرائيل” لا يمكن أن تصافح من يطلق عليها الصواريخ.

على الرغم من وجود علاقات دبلوماسية بين تركيا و”إسرائيل” منذ عام 1949، إلا أنها تأزّمت سياسياً عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2008، لتتدهور وتصل إلى حدّ القطيعة تقريباً عقب اعتراض البحرية الإسرائيلية “أسطول الحرية” في أيار 2012، حيث قتل الكوماندوز الإسرائيلي عشرة ناشطين أتراك.

وإثر ذلك، طردت تركيا السفير الإسرائيلي وجمّدت التعاون العسكري، وقلّصت “إسرائيل” وتركيا تبادل المعلومات المخابراتية، وألغيتا تدريبات عسكرية مشتركة، لكن العلاقات استؤنفت مجدّداً في عام 2016، بشكل تدريجي.

ثم ما لبثت أن تدهورت في 2018، لأسباب تتعلّق بسياسات الاحتلال والقضية الفلسطينية وتحديداً الاعتداء على الفلسطينيين المشاركين في مسيرات العودة وقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ما أحرج أردوغان أمام جمهوره.

في الواقع ليست هناك نقاط خلاف حقيقية مباشرة بين النظام التركي و”إسرائيل”، لكن ربما هناك خلاف سطحي ظاهري على ملف القضية الفلسطينية، ولكن لا مشكلة ما بين “إسرائيل” وتركيا، ذلك أن الابتعاد ما بين الجانبين جاء على خلفية سياسية أكثر من أي شيء آخر، ولذلك فإنه من السهل جداً إعادة العلاقات بينهما إلى مسارها الطبيعي، فليس هناك عداء حقيقي ومباشر يستحق القطيعة البائنة.

وتجدر الإشارة إلى أن العلاقات التجارية بين “إسرائيل” وتركيا لم تتوقف يوماً واحداً، إذ أن العلاقات السياسية في وادٍ والعلاقات الاقتصادية في وادٍ آخر لدرجة أن العلاقات الاقتصادية لم تتوقف حتى ليوم واحد، بل إنها في تزايد مضطرد.

وبناءً على ذلك أرسلت تركيا برسائل لـ”إسرائيل” وصفت بـ”الدافئة”، في موقفٍ يراه باحثون أتراك و”إسرائيليون” يصب في إطار محاولات إعادة تطبيع العلاقات بين الطرفين، بعد سنوات طويلة من التصرفات “شبه العدائية”.

إن التصريحات الإيجابية التي صدرت من قبل أردوغان خلال لقائه مع حاخامات اليهود في أنقرة هي إشارة واضحة على انفراجة مرتقبة مع مطلع العام الجديد في العلاقات التركية “الإسرائيلية”. وهي أولى المحطات التي أسّست لما حصل أخيراً، من بينها انتهاء أزمة الزوجين الإسرائيليين في إسطنبول، إضافة إلى المكالمات الهاتفية بين أردوغان ونظيره “الإسرائيلي” التي عكست الأجواء الإيجابية في انفتاح الجانبين على إعادة إصلاح العلاقات.

إن هذه المحطات حوّلت الأزمة إلى فرصة لعودة العلاقات إلى سالف عهدها بين الجانبين. ومن المتوقع أن تشهد العلاقات بين أنقرة و”إسرائيل” تحسّناً ملحوظاً في الأيام القليلة المقبلة خاصة بعد خطوات “حسن النية” التي أقدم عليها أردوغان مع “الإسرائيليين”، وتأكيده على أن هذه العلاقات بين البلدين تشكل أهمية لاستقرار وأمن منطقة الشرق الأوسط.

وهناك عدّة نقاط جديدة ستساعد في تحقيق التقارب أكثر من أي وقت مضى ذلك أن مزيجاً من المصالح الاقتصادية والطاقة والاستخباراتية والسياسية قد أقنع أنقرة بإعادة التفكير في سياستها تجاه “إسرائيل”. ويبدو أنها تريد التركيز على تخفيف حدّة التوتر في العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكذلك مع القوى الإقليمية في الشرق الأوسط.

فرئيس النظام التركي أردوغان يدرك أن إصلاح العلاقات مع “إسرائيل” وسيلة من أجل تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، إذ أن العلاقة الجيدة مع “إسرائيل” تساعد أنقرة في تهدئة خلافاتها مع واشنطن، بسبب خصوصية العلاقة بينها وبين الإدارة الأمريكية، ونظرة أنقرة للعلاقات معها على أنها أحد مفاتيح العلاقة مع واشنطن، التي لا تحمل الكثير من الود تجاه تركيا عموماً وأردوغان على وجه الخصوص، بما في ذلك الدعوة لإسقاطه ودعم المعارضة وفرض العقوبات عليها وإخراجها من مشروع مقاتلات إف – 35 بشكل نهائي.

وفضلاً عن ذلك، فإن عزلة تركيا مع جوارها دفعها لإعادة تصحيح مسار علاقاتها مع دول المنطقة بما في ذلك “إسرائيل”،  فإصلاح العلاقات مع “إسرائيل”، من شأنه أن يُساعدها في عملية تفكيك التحالف الذي تشكّل ضدّها في شرقي المتوسط في الفترة الماضية.

إن ملف شرقي المتوسط وتوزيع الثروات فيه بات مؤخراً أحد أهم أولويات السياسة الخارجية التركية لما له من دلالات وارتدادات استراتيجية تتعلّق بالتنافس مع الخصم التقليدي اليونان، وأمن الطاقة، وكذلك التنافس الجيوسياسي في المنطقة. ومن هذه الزاوية، تسعى أنقرة لخلخلة التحالف المواجه لها في هذا الملف، والبحث عن شركاء يمكن الاتفاق معهم على ترسيم الحدود البحرية وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة بما يدعم الادعاءات التركية ويدحض حقوق أثينا، أسوة بما تم مع حكومة الوفاق الوطني الليبية في 2019، ويبرز هنا طرفان مرشحان لهذا الأمر: مصر و”إٍسرائيل”.

إن أردوغان الغارق وسط بحر هائج – قد يطيح به-  يبحث عن قشّة لكي يتمسك بها لأن الأتراك غاضبين بصورة هائلة والتأييد الشعبي الذي يمتع به طيلة السنوات تلاشى بصورة شبه كلية. كما أن سقوط “الإخوان المسلمين” في الوطن العربي سبب آخر يدفع أردوغان لتحسين علاقات تركيا مع دول المنطقة ومن بينها “إسرائيل”.

ويعد العامل الاقتصادي هو السبب الرئيس للاقتراب من “إسرائيل”، خاصة أن “إسرائيل” تمتلك اقتصاداً قوياً يمكن الاتكاء عليها في ظل جائحة كورونا وتأثيرها على الاقتصاد التركي الذي يمر بأزمة منذ عام 2018، بالإضافة إلى تراجع قيمة الليرة التركية بسبب بعض السياسات النقدية المعتمدة .

ولقد جاء سقوط نتنياهو وحكومته وتشكيل حكومة جديدة لدى الاحتلال، حيث كانت أنقرة تحمّله وحكومتَه مسؤولية تردّي العلاقات بين الجانبين، ما يجعل القيادة “الإسرائيلية” الجديدة “فرصة” لتحسين العلاقات دون حرج كبير أو بكلمات أخرى سبيلاً للنزول عن الشجرة بأقل الأضرار.

إن التغيير الذي حصل للحكومة الإسرائيلية سيكون عاملاً مساعداً، ذلك أن نتنياهو كان يرفض تطبيع العلاقات مع أنقرة بشكل قطعي. والآن لم يعد نتنياهو موجوداً وهناك قيادة جديدة في “إسرائيل” وهي معنية من جانبها في حلحلة الأمور وحل الأزمة المستمرة مع النظام التركي منذ سنوات. فهي لا تريد تدهوراً في الأوضاع ودائماً تفضل العلاقات الإيجابية مع دولة مثل تركيا، خاصة أن الأمر يتزامن مع المواجهة والتهديد بضرب إيران.

من جانبها تعتقد أنقرة أن هذا الوضع يُمكن أن يُساعد في إصلاح العلاقات مع “إسرائيل”، لكنها تشترط في المقابل أن تُغيّر “إسرائيل” من تعاملها مع القضية الفلسطينية والقدس لرفع الحرج عن رئيس النظام التركي بزعمه أنه يتولى حماية بلاد المسلمين وخليفتهم الأوحد.

وفي المقابل، هناك شروط إسرائيلية يجب على النظام التركي تنفيذها، إذ تطالب “إسرائيل” بثلاث تعهدات مهمّة من أنقرة قبل الموافقة على استعادة العلاقات. وتلك المطالب هي أن تكف تركيا عن السماح لحماس بالتخطيط لأنشطة عسكرية انطلاقاً من أراضيها، وأن تكون تركيا أكثر شفافية بشأن أنشطتها فى القدس الشرقية، وأن يخفّف أردوغان والمسؤولون الأتراك من حدّة خطابهم الذي يراه الجانب الإسرائيلي “قاسياً ومناهضاً” “لإسرائيل”.

إن “إسرائيل” ترحب دائماً بالعلاقات مع تركيا، لكن الأخيرة تظهر بعض التحفظات بشأن ملفات تتعلّق بالقدس وغزة.” فإسرائيل” تعدّ القدس عاصمتها التاريخية والقبلة الوحيدة لليهود، وهذا الشيء تتحفظ عليه تركيا. كذلك أنقرة تتحفظ على معاملة “إسرائيل” لحركة حماس في غزة، فـ”إسرائيل” ترى أنها لا يمكن أن تتعانق مع من يطلق عليها الصواريخ.

ومع اتفاق أنقرة وتل أبيب على العمل من أجل تحسين علاقاتهما المتوترة في أعقاب اتصال هاتفي بين أردوغان والرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هرتسوغ. فلا شك أن التقارب بحلته الجديدة بين الجانبين سيكون على حساب المواقف والرؤى في مجمل قضايا المنطقة ومنها القضية الفلسطينية. إذ أن التقارب سيكون له استحقاقاته على الطرفين وسيقدم كل منهما للآخر شيئاً مما كان يطالب به كمقدمة لتطوير العلاقات وتحسينها.