مجلة البعث الأسبوعية

خالد أبو خالد… الشاعر المحارب

البعث الأسبوعية-أمينة عباس

رحل خالد أبو خالد الشاعر المحارب وفتى كنعان وشاعر المقاومة وأحد فرسانها وهو الذي ظل قلبه ينبض حتى اللحظات الأخيرة حباً لفلسطين التي لم تغادره يوماً وبقي  لأيامه الأخيرة يحثّ الفلسطينيين على عدم المساومة عليها أو التفريط بها، ليكون واحداً من أهم شعراء القضية الفلسطينية والإنسانية.

الفدائي

ولد الراحل في العام 1937 في قرية سيلة الظهر قضاء جنين في فلسطين وكان والده محمد صالح الحمد أحد المناضلين بوجه الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية واستشهد أثناء ثورة العام 1936 وعندما بدأت معارك فلسطين عام 1948 كان خالد أبو خالد في الحادية عشرة من العمر ورأى كيف يذهب المناضلون لخوض المعارك من أجل تحريرِ فلسطين وكيف يعودون شهداء أو جرحى، ولطالما حملَ بعضَ الذخائر الفارغة ليعطيها لهم كي يعيدوا تصنيعها وتعبئتها من جديد، وقد كانت قريته واحدة من بؤر الثورة الفلسطينية، ولعبت والدته التي رفضت مغادرة قريتها بعد النكبة دوراً مهماً في بداياته الشعرية، فهو كان ينام على تهاليلها ويسمع منها مناحات القرية التي كانت تحفظها والتي لها علاقة بالشهداء ووداعهم وتأبينهم، كما تعلم من الشعراء الشعبيين في قريته والقرى المجاورة الأغاني مثلما تعلم الشعر والأناشيد من الشاعر عبد الرحيم محمود صاحب قصيدة سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى والذي كان مدرساً في كلية النجاح الوطنية في نابلس، حيث كان يدرس خالد ابو خالد، وهكذا عاش أبو خالد طفولته وشبابه في ظروف صعبة واضطر للعمل بمهن عديدة، وبعد أن حاز على الشهادة الثانوية عمل في الإذاعة والتلفزيون في الكويت كمذيع ومعدّ للبرامج، وكان حينها عرّابه صديقه ورفيق عمره الشاعر والمفكر ناجي علوش الذي كان أول من نشر كتاباته ورسومه في جريدة “الشعب” الكويتية، ومن ثم في مجلة “الآداب” وكان حينها أبو خالد في عمر الـ 26 إلى جانب قيامه مع مجموعة من الأصدقاء بتأسيس جريدة “الرسالة” في الكويت والمساهمة في تأسيس مسرح الخليج، وفي العام  1966توجه خالد أبو خالد إلى دمشق وتابع عمله كمذيع ومعدّ للبرامج، وبعد نكسة حزيران 1967 انخرط في العمل المقاوم والفدائي حتى صار قائداً للثورة الفلسطينية شمال الأردن، وحين أراد الكاتب الفرنسي جان جينيه الاطلاع على التجربة الفلسطينيّة التي اجتذبته توجه إلى قواعد الفدائيين للعيش معهم، وفيها التقى بالشاعر خالد أبو خالد في الأردن وهو يقود الفدائيين بروح الشاعر فأعجب بشخصيته وعبّر عن ذلك في كتابه “أسير عاشق”.

من المسرح الى الشعر

دخل أبو خالد بوابة الأدب من خلال المسرح، فكتب مسرحية بعنوان “فتحي” عام 1969 مكتفياً بها، إذ سرعان ما توجه إلى عالم الشعر، وقد أوضح أبو خالد كثيراً أن عدم تكراره لتجربة الكتابة للمسرح مردّه إلى أن المرحلة حينها فرضت ذلك،إضافة إلى صعوبة ترجمة الكتابة المسرحية لما يتطلبه المسرح من إمكانيات لا تتوفر إلا من خلال دعم الدولة له، لذلك وفي العام 1971 أصدر أولى مجموعاته الشعرية “قصائد منقوشة على مسلّة الأشرفية” ثم تتالت إصداراته لتبلغ 13 مجموعة على مدى أربعين عاماً جُمعت ضمن أعماله الكاملة تحت اسم “العوديسة” واتسمت قصائده برأي النقاد بميلها للحداثة والتجديد وارتباطها بالقضية الفلسطينية.

شاعر ملحميّ

حاول خالد أبو خالد أن يكون شاعراً ملحمياً لرغبته في قول كل شيء عن الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، ويبدو أن لحظةَ الموت التي كانت تقترب منه دائماً كانت تدفعه إلى قول كل شيء قبل أن يغيب، فاتسم شعرُه بالملحمية التي تحاول أن تقدم الصورة المركبة لتاريخ الشعب الفلسطيني ونضالاته وتطلعاته المستقبلية، ويُعدّ ديوانه “تغريبة خالد أبو خالد” مثال عن القصيدة الملحمية وقد صدر عام 1972  وفيه أعاد كتابةَ السيرة الشعبية العربية ووظفها بما يتناسب مع الراهن العربي والفلسطيني، وكانت تلك أول محاولة شعرية تستلهم التراث والموروث وتقدمه إيماناً من أبو خالد أن الصيغة الشعبية هي صيغة ملحمية بالأساس، مبيناً في أحد حواراته أن الشعر الملحمي في مرحلة هو غيره في مرحلة أخرى،حيث لايمكن أن نطالب شاعراً عربياً أن يكتب اليوم ملحمة هوميروس بصيغتها الهوميرية ولكن يمكن أن نطلب إليه أن يسقط مواصفات ملحمية على قصيدته الراهنة بمقاييس الواقع المستمدة من القصيدة نفسها.

قضية إنسانية

حين اتهِمَت قصيدتُه بأنها مغلقة على فلسطين وليست مفتوحة على الإنسانية أشار أبو خالد إلى أن من اتهمه بذلك تجاهل أن قضية فلسطين هي قضية الظلم في العالم كله، حيث لم يقع ظلمٌ على شعب في التاريخ كالظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني، وهو ظلم تحسسه كافة أحرار العالم في كل مكان عندما قرأ قصائده لهم مترجمة: “لأنني عندما أغلق قصيدتي على فلسطين أغلق قصيدتي على قضية إنسانية شاملة وعادلة، وهي ليست قضية الشعب الفلسطيني والعربي فقط بل هي قضية أحرار العالم أينما وجدوا، وبالتالي هي قصيدة مفتوحة على هذا الأفق”.

شاعر مباشر ومقلّ

على الرغم من اتهام الشاعر المباشر بأنه شاعر لا يصوغ قصيدته فنياً بطريقة عالية لم يتردد أبو خالد في الاعتراف بأنه شاعر مباشر لأن هدفه كان دائماً الوصول إلى المتلقي، وقد استطاع أن يوظف المباشرة في القصيدة توظيفاً فنياً عالياً: “المباشرة في قصيدتي هي مباشرة ذات سوية فنية عالية” ولأنه لم يلهث وراء القصيدة كان شاعراً مقلاً ينتظر قصيدته لتأتيه فيكتبها وتكتبه، وكان يرى أن الشاعر المكثِر يخشى الغياب لهذا يكاد لا ينقطع عن كتابة القصائد، أما هو فلا يصرّ على استحضار قصيدة إلا إذا نادته لأنه شاعر لا يغريه الحضور اليومي في مجالات النشر بمقدار ما يحكمه من ضرورة تقديم الإضافة الشعرية ولقناعته أن تخطّي إغراءات النشر السهل والحضور اليومي ضروري من أجل إغناءِ الشاعر والشعر معاً :”الكتابة سهلة والنشر أسهل، والعلاقات العامة مدرسة لكل من يريد أن يكون شاعراً غير مهم”.

الشاعر الغنائيّ

يُعد أبو خالد من جيل الشعراء الأوائل الذين أنشدوا وغنّوا للمقاومة، وكانت أول القصائد الغنائية التي كتبها “زغردي يا ام الجدايل” وكانت للتعبير عن رحلة النضال المتراكم للشعب الفلسطيني منذ العام 1920 مروراً بالنكبة والنكسة وانتفاضة الحجارة، وقد غنّت له فرقة الجذور في الانتفاضة الأولى 40 أغنية منها “سبّل عيونه، وزغردي، وهلي علينا يا بشايرنا هلي، وفلسطين مزيونة، والبطل نادوا عليه، وعالردى” وغيرها.

كُرّم لمواقفه الوطنية وشعره من مؤتمر شباب الأحزاب العربية في دمشق ومن المكتبة الوطنية الجزائرية ومن مكتب منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم الإقليمي في بيروت عن مجموعاته الشعرية، كما نال جائزة القدس من الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب.

النثري والشعري والنقد

كتب أبو خالد  قصيدة التفعيلة وفي بعض تجاربه فيها زاوج بين النصين النثري والشعري في نسيج واحد ولم يكن الأمر مفتعلاً بل جاء في سياق التجربة وما قصيدته العوديسا وقصائد أخرى إلا خير مثال على هذه المزاوجة، معترفاً أنه لم يجد نفسه مؤهلا لتجاوز شعراء العامودي الكبار ليضيف على تجربتهم ولذلك قدم القصيدة التي أرادها وبالأدوات التي يجيد استخدامها، أما النقد فكان يؤسفه أنه تخلف كثيراً عن الإبداع: “النقد تعامل مع السياب والبياتي و نزار قباني وخليل حاوي وفدوى طوقان” وأن ما جرى بعد ذلك برأيه هو نوع من الترويج وذلك بسبب غياب الناقد المختص حيث اضطر شاعر الستينات إلى لعب دور الناقد بالإضافة إلى كونه شاعرا، فأصبح هو المسؤول عن نقد قصيدته وتطويرها: “على سبيل المثال أنا اكتب قصيدتي وأقراها لاكتشف أنها حارة وساخنة، ثم أضعها في الدرج شهرين وأعود إليها فإذا وجدت أنها ما زلت تحتفظ بسخونتها ادفع بها إلى النشر وإلا فلا.. أنا الذي أخلصها من الشوائب وأنقحها.. وأنا الذي اكتشف مقاييس الشعر فيها فالناقد غائب”.

جوائز مسيسة

ترك أبو خالد في الفن التشكيلي العديد من اللوحات بالتصوير الزيتي التي سجل فيها أحداثاً من تاريخ فلسطين، وقد حصل على جائزة القدس من الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب عن مجمل أعماله الشعرية والأدبية حيث تمنحها الأمانة العامة للأدباء والكتاب العرب، كما حصل على أكثر من مئة وخمسين تكريماً في سورية والوطن العربي دون أن يطلبها من أي جهة وكان يرى أبو خالد أن الجوائز التي يعلن عنها وتناقش ويصوت لها الجمهور وتعرض على شاشات التلفزة جوائز مسيسة لا تخدم قضايا الثقافة العربية بل هي خدمة للوسائل الإعلامية أو للجهة التي تعلن عنها لأن الجائزة الحقيقية برأيه تشكل لها لجنة سرية لا يعلن عنها إلا بعد أن تصدر النتائج.