خيوط العنكبوت والأفواه الجائعة… التجويع سلاحاً في الحرب على اليمن
البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة
في كانون الأول الماضي، دق رئيس بعثة منظمة أطباء بلا حدود في اليمن نيكولاس باباكريسوستومو ناقوس الخطر، موضحاً أنه إلى جانب الخسائر العديدة التي خلفتها الحرب على مدى السنوات السبع الماضية، تثقل المجاعة كاهل البلد الذي مزقته الحرب، وهو مصير تتشاركه أفغانستان واليمن وغيرهما من الدول التي رزحت تحت وطأة الحرب. مضيفاً: “لقد كان للحرب المستمرة منذ سبع سنوات تقريباً، أثر بالغ على اقتصاد البلاد، كما أضعف نظام الرعاية الصحية الهش أصلاً، أم الوضع فهو يزداد سوءاً يوماً بعد يوم”.
في الواقع، يبدو أن العالم اعتاد على هذه التصريحات، فقد كانت هذه الصرخات التحذيرية كثيرة لدرجة أن العالم قد تعلم أن يغض الطرف عنها، لكن سيكون من الحماقة تجاهل محنة ملايين الأفغان واليمنيين على أساس أن الدول الكبرى لا تستطيع استيعاب تداعيات المجاعة على الجغرافيا السياسية، واستقرار المنطقة.
تظهر التجربة في أفغانستان وغيرها من الدول التي عانت من الحروب، أن اليأس يولد فراغات سياسية لا يمكننا التنبؤ بها، بالإضافة إلى البدء في التخطيط لها. وهنا يجب على المجتمع الدولي أن يتحمل المسؤولية، لأن المجاعة في كل من أفغانستان واليمن ليست نتيجة مباشرة للحرب، بل هي سلاح حرب.
لا يستطيع أحد أن ينكر أن المجاعات ناتجة عن أفعال سياسية، تتراوح من الحرمان من الطعام والسعي وراء أهداف سياسية واقتصادية وعسكرية إلى الإهمال المتعمد، وبحسب برنامج الغذاء العالمي، فإن عشرة من أسوء 13 أزمة غذائية في العالم – والتي تشتمل بالطبع على أفغانستان واليمن – ليست مدفوعة بالصراعات فحسب، بل هي نتاج تكتيكات الحرب المتعمدة بما في ذلك عرقلة الاقتصادات وتجويع السكان.
نذكر أفغانستان على سبيل المثال، فكلما دُفِعَت الشعوب إلى حافة الهاوية، كلما زاد الوضع خطورة وعنفاً، الأمر الذي يؤدي بطبيعة الحال، إلى فتح الطريق أمام إرهاب التنظيمات الإرهابية مثل “طالبان” أو “القاعدة”. حتى من خلال التلاعب بالمساعدات الغذائية والوصول إلى الاحتياطيات الغذائية من خلال فرض الضرائب والجبايات، لم تخلق الأطراف المتحاربة دعماً مالياً جديداً لقضيتها فحسب، بل عززت وضعها السياسي، باستخدام الأمن الغذائي بمثابة الحافز.
في أيلول الماضي، استولت “طالبان” على مكاتب برنامج الأغذية العالمي في قندهار، ووضعت جميع الإمدادات الغذائية الموجودة تحت سيطرة قواتها بدلاً من توزيعها على المجتمعات الأكثر ضعفاً.
وهنا لابد من الإشارة إلى أنه، في غضون عقدين من الزمن، فقدت أفغانستان 176000 شخصاً تقريباً بسبب التدخل العسكري، منهم 46000 مدني. ومع ذلك قد تكون المجاعة المروعة هذا الشتاء وحده أكبر بكثير، وربما تحصد المزيد من الأرواح التي قد تصل إلى عدة ملايين.
توقعت منظمة الصحة العالمية بالفعل أنه، ما لم يتم اتخاذ إجراءات إنسانية جذرية، سيلقى مليون طفل أفغاني تقريباً ممن لم يتجاوزوا الخامسة من العمر حتفهم بسبب الجوع، كما سيعاني 2.2 مليون آخرين من سوء التغذية الحاد.
وفي هذا السياق، يقول مسؤولو المساعدات الإنسانية في الأمم المتحدة إن “نافذة المساعدة تضيق”، حيث أن خمسة في المائة فقط من الأسر لديها ما يكفي من الطعام كل يوم، ومن المتوقع أن يعاني أكثر من نصف الأطفال دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد في العام المقبل.
وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، في الثالث من شهر كانون الأول الفائت: ” وصل الجوع في أفغانستان إلى مستويات غير مسبوقة حقاً، إذ يواجه 23 مليون أفغاني تقريباً – أي 55٪ من السكان – مستويات شديدة من الجوع وحوالي 9 ملايين منهم معرضون لخطر المجاعة”.
من المؤكد، أن المجاعة في كل من اليمن وأفغانستان ليست نتيجة لندرة الغذاء فحسب، بل هي بالأحرى نتيجة الضائقة المالية التي تواجهها الأسر. فمنذ بداية الحرب على اليمن، استخدمت الجهات الفاعلة السياسية “للتجويع” كسلاح في الحرب من خلال ارتكاب أعمال إرهابية، كالهجمات على قطاع إنتاج الأغذية والأسواق، و إعاقة أو حظر وصول المساعدات وتقديم المساعدات بشكل انتقائي لجانب واحد من النزاع.
تم الاعتراف بالصلة بين الحرب والجوع في الواقع بشكل صريح مع صدور قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في عام 2018 الذي يحظر استخدام الجوع كسلاح حرب. وعلى الرغم من أنه من الواضح أن الجهات الفاعلة السياسية لم تتقبل مثل هذه التوصيات، فقد لعبت الأمم المتحدة مع ذلك دوراً أساسياً في تسليط الضوء على هذا الأمر، لدرجة أن برنامج الغذاء العالمي منذ ذلك الحين عمل بجد لفهم الصلة بين الأمن الغذائي والصراع وكيف يمكن أن يساهم في بناء السلام.
يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه الجهود يمكن أن تنقذ اليمن وأفغانستان، ففي كلا البلدين، تشكل العديد من الأزمات “عاصفة اجتماعية وسياسية بحتة”، خاصةً أن اليمن وأفغانستان وجدت نفسيهما في حالة حرب لأسباب عديدة مختلفة، وهما يحملان الكثير من أوجه التشابه بحيث لا يمكن تجاهلها، خاصة من جهة تشابه النمط العمراني بينهما.
لقد تركت الحرب وعواقبها ملايين المشردين، في معظم الحالات بلا مأوى وعرضة لأهواء أمراء الحرب المحليين أو المجتمع الدولي، وشكلت المساعدة الخارجية في أفغانستان ، على سبيل المثال، والتي بلغت حتى وقت انسحاب الولايات المتحدة منها 75٪ من إجمالي الإنفاق العام. والآن بعد أن جفت التبرعات بسبب عدم رغبة الدول في “دعم” أفغانستان التي تديرها طالبان، لم يتم دفع رواتب المعلمين والمهنيين الصحيين وموظفي الخدمة المدنية منذ شهور ما دفع مئات الآلاف من العائلات إلى فقدان الأمن الغذائي.
بغض النظر عن عدد المرات التي ستدعو فيها وكالات الغوث التابعة للأمم المتحدة البلدان والجهات المانحة الخاصة للتحرك، لم يعد مقبولاً تجاهل الأسباب الهيكلية الكامنة وراء الجوع وسوء التغذية. ربما يكون الأمر أكثر دقة إذا سُمح للحكومات الغربية بالاختباء وراء منظمات مثل برنامج الأغذية العالمي وبالتالي الهروب من تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقهم، الأمر الذي سيُبقي المجتمعات الضعيفة في حالة أزمة إنسانية طويلة الأمد.
مع العلم، أنه من اختصاص الأمم المتحدة العمل ضد جرائم المجاعة الجماعية، كما يحصل في اليمن وأفغانستان ، بموجب قانون مسؤولية الحماية الذي اعتمدته في عام 2005.
للتذكير فإن مسؤولية الحماية – المعروفة باسم “أر2 ب” – هي معيار دولي يسعى إلى ضمان عدم فشل المجتمع الدولي مرة أخرى في وقف الجرائم الجماعية الفظيعة المتمثلة في الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية. وقد ظهر هذا المفهوم رداً على فشل المجتمع الدولي في الاستجابة بشكل مناسب على الفظائع الجماعية التي ارتكبت في رواندا ويوغوسلافيا السابقة خلال تسعينيات القرن الماضي، حيث طورت اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدولة مفهوم المسؤولية عن الحماية خلال عام 2001.