قصة بطل يحاول تجنب إنسانيته
كشفت جائحة كوفيد 19 خبايا عديدة في نفوس الناس، لكن لم ينتشر أي منها كانتشار الخوف من المرض والموت. وحتى بعد ظهور لقاحات وعلاجات عديدة، استمرت هذه الهستريا في الانتشار.
لكن هذه الهستريا كشفت عن موضع ضعف مستتر خطير، فعلى الرغم من أن البشر في العصور السابقة كافحوا كثيراً من الأوبئة الفتاكة، لم يظهروا مثل هذا الخوف الشديد من الموت – إلى حد الانغلاق الجماعي للمجتمع، بل عاشوا حياتهم وتحملوا المخاطر، ووجدوا أو أوجودوا طريقة لقبول حتمية الموت وفهمه.
وإن أمعنا النظر في الحال الذي وصلنا إليه، نجد أن هذا التغير في السلوك – أو أقلها معظمه- مرتبط بفقدان المعنى، إذ إن كثيراً من الناس يعيش اليوم حياة خالية تماماً من أي غاية خارج إطار استهلاك السلع واكتساب مكانة اجتماعية، حتى إنهم حُرموا من العزاء الذي يوفره العمل والإنتاجية، لأن وظائف كثيرة أمست زائدة عن الحاجة وغير ضرورية (وهو ما أثبته الإغلاق).
والمفارقة أن الروائيين الذين حاولوا لفت الانتباه إلى هذا الفراغ لم يفلحوا في إحراز نصف ما أحرزه الروائي الذي وجد طريقة ما لترميم هذا الفراغ، إذ روى كتّاب أمثال ألبير كامو وفرانز كافكا قصصاً عن أبطال مجردين من الإنسانية يعيشون حياة خالية المعنى ويقابلون موتهم كالعجماوات، بيد أن رواياتهم تبدو في غالب الأحيان أنها تقدم خروجاً من الحالة البشرية بدلاً من العلاجات الواقعية.
وعلى النقيض من ذلك، يروي ليو تولستوي في روايته القصيرة “موت إيفان إيليتش” قصة بطل يحاول تجنب البحث عن المعنى ليصطدم به في النهاية بشدة، لأنه يموت موتاً بطيئاً ومؤلماً، وهذا أكثر واقعية بكثير، ويوضح حقائق أعمق حول الطبيعة الإنسانية وحاجتها إلى المعنى.
تفتتح الرواية بجنازة إيليتش، حيث يبدو أفراد عائلته ومن يدعي صداقته حزينين على فراقه، وواقع الحال أن أرملته تندب فقدان الدخل، وأول خاطرة طرأت ببال أصدقائه هي الترقيات المحتملة الناجمة عن وفاته، حتى أطفاله يبدون حائرين أكثر من كونهم حزينين، ولدى قلة من الحاضرين ذكريات عن إيليتش، وحزنهم مصطنع، ويقول الراوي عن أصدقاء إيليتش: كل فرد منهم فكر أو شعر في خلده “حسناً، هو ميت لكني ما أزال حيّاً”.
وبعد عرض إرث إيليتش المخيب للآمال، يروي تولستوي قصة حياته من البداية، ويستهلها بتقييم غريب: “كانت حياة إيفان إيليتش عادية وبالغة البساطة، لهذا كانت بالغة الفظاعة”.
من الناحية المادية، كانت حياته بسيطة وعادية، حيث يكبر إيفان ليصبح موظفاً في محكمة، ولم يحظ بالشهرة ولا بالثروة، ولكنه يتجنب الألم والمعاناة.
ومن الناحية الروحية، هذا الوجود الضحل مريع، فلا يشجع على أي نوع من الإبداع، فخلال معظم فترة المراهقة، ومرت حياته بسلاسة وسلامة، كما خطط لها، ويتولى أمور وظيفته، ويتجنب المواجهات مع زوجته، ويصعد ببطء في سلم الشركة، ويضع لنفسه طموحات عادية تماماً: “كان منزله شبيهاً بغيره لدرجة لم تلفت انتباه أحد، ولكن بدا كل شيء في نظره استثنائياً للغاية”، وهذا شتت انتباهه بفعالية عن تفاهة وجوده وموته في النهاية.
بالطبع ، يجد كثير من الناس أنفسهم اليوم مكان إيليتش، فقد بات أسلوب الحياة المريح والسطحية المصاحبة له هو المعيار الآن، وأمسى العمل مهرباً من المسؤولية والمعاناة بدل أن وسيلة للمساهمة في العالم. وعلى هذا المنوال، بات مكان العمل خالياً من الدفء أو الاتصال البشري، وهذا ينسحب على المنزل، الذي تأسره وسائل الإعلام الرقمية والأنانية المنهجية، فمن أحد الجوانب، الحياة “ممتعة” (وهي كلمة يكررها تولستوي كثيراً في الرواية)، لكنها من جانب آخر “كذبة” (وهي كلمة أخرى يكررها تولستوي في الرواية).
يدوم هذا الوهم لمدة عقدين من الزمن حتى يواجه إيليتش موته وجهاً لوجه، حيث يتعرض أثناء تعليقه بعض الستائر لإصابة تتحول إلى مرض يصيبه بألم لا يطاق في جانبه الأيسر وبطعم كريه في فمه، وتزداد حالته سوءاً يوماً بعد يوم.
في هذه المرحلة، لم يبد إيليتش علامة عن صحوة في نفسه، بل تضاعف من استيائه من الجميع، وغرق في الشفقة على نفسه، واعترك في نفسه أمل لا عقلاني في شفاء إعجازي، ولم يظهر المرض إلا أسوأ ما فيه، مثلما أخرج فيروس كوفيد أسوأ ما في الناس اليوم.
ولم يشعر إيليتش بالندم وإيجاد معنى حقيقي لمعاناته إلا في النهاية، فأدرك أوهام السعي وراء المكانة والاستهلاك التي شغلت مرحلة المراهقة بأكملها.
وفي اللحظات الأخيرة من الرواية، يطلع تولستوي القارئ على عاطفة إيليتش، فبدل أن يعاني لثلاثة أيام تحت أنظار المقربين، يعاني إيليتش في سريره وحده في الغالب لثلاثة أيام. وكما سامح المسيح من أذاه بجهالة، سامح إيليتش أسرته ونفسه، فتتحول مأساة إيليتش إلى انتصار كما يكشف الراوي: “وبدلاً من الموت كان ثمة ضوء”.
لا يقترح تولستوي هنا أن يمر جميع الناس بهذه التجربة، بل يقول إن كل شخص سيحتاج إلى التعامل مع إنسانيته، ومن هنا نجد الحاجة إلى المعنى والغاية، وبإمكان المرء أن يفعل ذلك واعياً، وإلا سيصطدم به من حيث لا يدري.
إعداد: علاء العطار