«الدبلوماسية الروحيّة» في مواجهة المشروع القومي
د. عبد اللطيف عمران
وأخيراً أتانا -عرباً ومسلمين- تحدي (الدبلوماسية الروحيّة) كمصطلح وكمفهوم ناجزين، في وقت لم يعد ينقصنا فيه شيء من ألوان التحديات ولاسيما تلك التي تتصل بأسئلة الهوية والمصير، والتي لم تتوانَ المركزية الغربية ودبلوماسيوها عن استهدافنا بها من سايكس بيكو، وبلفور، وصولاً إلى رايس وكلينتون، وكيري، ومروّجي صفقة القرن والاتفاقات الأبراهامية على حامل هذه (الدبلوماسيّة الروحيّة) التي ستكون وطأتها أثقل مما سبق على الفكر القومي العربي وعلى المشروع العروبي اللذين لم ولن يموتا رغم الضعف والهوان الواقعين.
لم تأتِ يوماً خطط الغرب ومؤامراته على حقوقنا وأرضنا ووجودنا من طباعه، ولا من سياساته وأطماعه فحسب، بل من أنساقٍ فكرية واتجاهات فلسفية تكاد تشبه نظرية المعرفة، حيث تستند هذه السياسات على أسس فلسفية مدروسة بعناية ودقة بأبعاد (ما بعد) استراتيجية، على نحو ما نرى في هذا النمط الطارئ والخبيث من الدبلوماسية.
صحيح أن الغرب عبث بتاريخنا وحاضرنا، وتاجر بالدين والطوائف والمذاهب والإثنيات والهويات واستثمر فيها أبشع استثمار منذ قرن مضى، ولايزال يجدّد ويطوّر استراتيجيته في هذا المجال منذ ارتباط أغلب مؤلفات المستشرقين بدوائر استخبارات المستعمرين، لكن قفزة اليوم نحو هذا النوع من الدبلوماسية تأتي على حامل الروح وطروحات (التسامح) والتآخي والسلام و..!!؟ ذلك بعد فشل طروحات (نهاية التاريخ) لفوكوياما الرامي إلى استسلام الخاسر لخسارته، وكذلك طروحات (صدام الحضارات) لهنتنغتون… وغيرهما من هذا القبيل..، فأتى طرح الدين الكلّي الإبراهيمي الجامع بين المسلمين والمسيحيين واليهود من أروقة تسرّب المسيحية الصهيونية إلى مفاصل الإدارة الأمريكية كمخرج منشود صهيوأمريكياً ضد حيوية القضية الفلسطينية ومحور المقاومة.
انبثق التفكير بـ(الدبلوماسيّة الروحيّة) في معمعان ما سُمّي بالربيع العربي، ولاسيما بعد مفاجأة السيدة كلينتون بسقوط حكم مرسي في مصر، ومع بداية نشاط جون كيري في وزارة الخارجية الأمريكية، أعلن في ربيع 2013 عن تأسيس مكتب الشؤون الدينية في وزارة الخارجية،… ويُعدّ الكرّاس ذو العنوان: الدبلوماسيّة والدين: البحث عن مصالح مشتركة والانخراط في عالم من الاضطرابات والتغيّرات الديناميكية، الذي صدر عن طاولة بحث تابعة لمعهد بروكنغز تأسيساً لمشروع جديد للعلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي والصادر برداء صهيوني في تشرين الثاني 2013، حيث الفكرة المركزية فيه: (العمل على أن يحلّ الانقسام السني الشيعي محلّ القضية الفلسطينية باعتبارها الأهم في العالم الإسلامي… وعلى الدبلوماسيين أن يروا في الدين والقيم الدينية فرصة لاكتشاف لغة جديدة، والفرصة الآن سانحة لإنشاء شراكة دبلوماسية دينية مع بعض القادة الروحيين نظراً إلى الأهمية الدينية للمسائل الدبلوماسية في الأراضي المقدسة ولوجود أرضية مشتركة لإدانة الإرهاب…)… وهكذا وصولاً إلى إدارة ترامب وطرح صفقة القرن والتطبيع وفق مصطلح (الاتفاقات الأبراهامية) حيث فوّض ترامب سفيره في الكيان الصهيوني في 2020 بشرح المصطلح والتشجيع على قبوله والعمل بمضمونه وأهدافه بعد أن كان مبدأ الدبلوماسيّة الروحية قد استوى.
نعم، استوى واستقر على أهمية قراءة الأحداث التاريخية الراهنة من منظور ديني، ووفق ما يمليه تجمع لرجال الدين والسياسة والدبلوماسيّة ينتج عنه قادة روحيون يجذبون مؤيدين وداعمين لدين إبراهيمي مشترك قادر على حلّ النزاعات والصراعات ولاسيما تلك الناجمة عن القضية الفلسطينية وعن الفكر القومي العربي تحت هدف مراوغ وهو تحقيق السلام العالمي ع/ط (كبار) رجال الدين في الأديان الثلاثة الذين سيعلون من شأن القيم المشتركة في سبيل مستقبل العالم الذي سينجزه (مركز الحكم العالمي) على أساس من التسامح مع المحتلين والقتلة والمغتصبين، والانشغال بالإرهاب الذي أنتجه الانقسام الإسلامي!!؟.
طبعاً، الدين (الأفراهامي) المشترك، وصفقة القرن، والاتفاقات الأبراهامية، والدبلوماسيّة الروحيّة، كلها لا تتحقق إلا على أشلاء المشروع القومي العربي، لأنها جميعاً ترفض فكرة العروبة كهوية، وتتجاهل وجود تاريخ وحاضر لأمة عربية، لتحولها إلى كيان ديني مترامي الأطراف يذوب مع الهوية الإسلامية في بلدان آسيا وإفريقيا، ثم مع الهويتين المسيحية واليهودية، ما عزّز مطالبة الصهاينة بتعويض نقدي عن الحقوق والوجود التاريخي المزعوم في الأقطار العربية، وشكّل بالمقابل مستساغاً للتوظيف السياسي للأديان، وشرخاً عميقاً في الأمن القومي العربي، وفي الفكر القومي العربي الذي رسّخه وزيّن آفاقه العرب، مسلمين ومسيحيين، لينضم اليهود إلى مشروع ديني كليّ خليط ينسف مفهوم الرسالة والوحي والشريعة.
حسناً، إذا كان هناك من يرى أن الفكر القومي العربي بات طرحاً تقليديّاً، أو بالأحرى رجعيّاً، فإن طرح الدين الأبراهامي الكليّ والدبلوماسيّة الروحية طرح إشكالي، إذ أن شخصية النبي إبراهيم (ع) ليست آثاريّة وهي مسار خلاف بين أتباع الديانات الثلاث، وتسييسه ينطوي على مخاطر كبرى على العروبة والإسلام، كما أن هذا الطرح رجعي أيضاً، فقد طرح مثله (الدين الكليّ) سلطان المغول جلال الدين أكبر عام 1582 ليضم إلى توسع سلطانه أتباع الهندوسية والمسيحية والإسلام في دين إلهي كليّ، وفشل الطرح.
بالمحصلة… الفكر القومي العربي غير رجعي، يمكن تجديده وتحديثه كمشروع ضروري ووجودي لا بديل عنه. بينما طرح الدبلوماسيّة الروحية رجعي بامتياز وخطر داهم، واجب على المثقف الوطني والعروبي مواجهته.