واقع الفن التشكيلي بين الجمود والعودة الخجولة
يعتبر الفن التشكيلي من رسم ونحت على وجه الخصوص من أوائل الفنون الإبداعية والتعبيرية التي رافقت الإنسان منذ بداية الخليقة حتى الآن، وقد حظي مبدعو هذا الفن بمكانة مرموقة في المجتمعات على مرّ العصور، وكان أبناء الطبقات “المخملية” يتسابقون إلى اقتناء لوحات مشاهير الفنانين وما زالوا حتى الآن، وقد وصل سعر بعض اللوحات إلى عشرات ملايين الدولارات.
وفي سورية كان للفن التشكيلي قبل السنوات العشر – عمر الحرب – مكانة ليست بالقليلة بين الأوساط الاجتماعية، حيث كانت بعض اللوحات التي تُعرض في صالات الفن المنتشرة في معظم المدن السورية، ولاسيما دمشق، تحقق ريعاً لا بأس به للفنان، بنسب متفاوتة، حسب شهرة كل فنان ومكانته الإبداعية، لكننا اليوم وبعد التحولات الكبرى التي طرأت على الوضع الاقتصادي والمعيشي إثر سنوات الدمار الماضية، والتغيرات الدراماتيكية التي شهدتها أنماط حياتهم وسلوكياتهم هل مازال الفنان التشكيلي في سورية يحظى بالمكانة ذاتها؟، وهل يستطيع الفنان احتراف هذا النوع من الفنون والعيش من مردوده، أسئلة قد لا يستطيع الإجابة عنها سوى أهل الاختصاص ذاتهم ممن عاصروا المرحلتين ما قبل الحرب وما بعدها.
انكماش النشاط الفني
النحّات غازي عانا، رئيس تحرير سابق لمجلة الفنون الجميلة، أمين تحرير مجلة الحياة التشكيلية (2001 – 2010)، يرى أن الفنون التشكيلية بالعموم هي الأشد تأثّراً كفضاء إبداعي بالحالة الاقتصادية والأمنية لأي بلد ومنطقة في العالم، وخاصة في منطقتنا العربية كونها ما زالت نخبوية بامتياز، ولم تستطع رغم كل الظروف الممتازة التي مرّت بها في فترات سابقة أن تحقّق شعبية أو جماهيرية تليق بها، لأسباب مختلفة. ولا بد لأي متابع للمشهد التشكيلي السوري، منذ بدايات الأزمة، أن يلاحظ مدى انكماش النشاط الفني كممارسة أو عروض أو تسويق، وأهمها – برأيي – أن قسماً كبيراً من الفنانين غادروا سورية، وخاصة المقتدرين منهم مادياً مع تقديري لظروف كل منهم على حده، ناهيك عن إغلاق صالات العرض في العاصمة، والذي بدأ تدريجياً منذ ذلك العام.
وكما بات معلوماً، اعتكاف البعض ممن بقي هنا عن الإنتاج أو على الأقل عن المشاركة في النشاطات الرسمية العديدة التي بقيت تقيمها وزارة الثقافة، ممثّلة بمديرية الفنون الجميلة، وأحياناً اتحاد الفنانين التشكيليين، كالمعارض الدورية والملتقيات وغيرها من ورشات العمل الفنية، مع العلم أن معظمنا يعرف الأسباب التي تتعلّق بغلاء المواد وصعوبة التنقّل، والأهم عدم جدوى تلك المشاركات لتعويضها المادي الضعيف نسبياً.. رغم كل ما سبق، لم يتوقف الإنتاج الفني خلال الأزمة وإلى يومنا هذا، حتى أن أحزاباً جديدة وجمعيات خاصة ما زالت تقيم العديد من المعارض لفنانين شباب وخريجين جدد، مع مشاركة لبعض الفنانين المعروفين.
وإن كان أكثر ما يعكس هذه النتاجات اليوم ما يقدمه كلّ من معرضي الربيع والخريف السنويين، إضافة إلى أعمال عدد كبير من الفنانين الذين ينتجون أعمالهم في ظروف مختلفة، ولكن يبقى موضوع التسويق الذي يتعامل معه كل فنان بالطريقة التي يراها تخدم الحالة التي يمكن أن يستمر من خلالها في الإنتاج، ومعظم هؤلاء الفنانين، وخاصة شريحة الشباب منهم، تحاول تسويق نتاجها عن طريق اتفاقهم مع صالات عرض أو مسوّقين معروفين في دمشق أو أمكنة مختلفة.
مع ذلك، لا يمكن الاعتماد على المعرض السنوي بشقيه الربيع والخريف في تمثّل الحالة أو المستوى الفني للحركة التشكيلية اليوم، رغم سعي تلك الجهات مجتهدة للتواصل مع معظم الفنانين الموجودين في دمشق والمحافظات وحثّهم على المشاركة.
على الصعيد الخاص، وبسبب الظروف الحالية المتفاقمة، وخاصة المقاطعة والحرب الاقتصادية الشرسة التي استهدفت الليرة السورية وسعر الصرف الذي وصل إلى أدنى مستوى له منذ عقود، لجأت كنحات إلى الاعتماد في عملي على مادة الصلصال، والتي يجب لإنهاء العمل تحويلها إلى خامة (البرونز والتي أصبحت تكاليفها باهظة)، إضافة إلى صعوبة التسويق للأسباب السابقة من إغلاق للصالات ومغادرة المهتمين بعمليات الاقتناء والتسويق، وهذا دفعني للاعتذار عن التحضير لإقامة معرض شخصي بعد الاتفاق مع صالة قدّمت كل التسهيلات.
تراجع اقتناء اللوحة
توصيف الفنان غازي عانا قد يكون توصيفاً دقيقاً للنشاط التشكيلي في العاصمة التي تتوزع فيها العديد من صالات العرض الخاصة والنشطة، التي برزت في المشهد التشكيلي ما قبل الأزمة، لكن في مدينة كحمص التي تنعدم فيها، إلى حدّ ما، “الغاليري” الخاص، ويقتصر النشاط الفني على صالة مديرية الثقافة وصالة الاتحاد “صبحي شعيب” وبعض الدور الأثرية القديمة والمؤسسات التعليمية،
ماذا يقول الفنان إميل فرحة رئيس فرع حمص لاتحاد التشكيليين، بعد الدمار الكبير الذي تعرّضت له المدينة التي تحملت تبعات الجزء الأكبر من الحرب؟
– للأسف تأثرت حركة الفن بحمص بعوامل كثيرة أهمها الحرب التي فرضت علينا وأجبرت الفنانين على النزوح من المدينة ومنهم من سافر خارج القطر، ومع توقف الحركة التشكيلية طيلة سنوات الحرب كان لا بد من العمل على عودة الفن إلى المدينة، وبدورنا كاتحاد بدأنا من تفعيل المبنى وصالة العرض كخطوة أولى من أجل إقامة المعارض وحثّ الفنانين على العمل، ونجحنا إلى حدّ ما في استقطاب معظم الفنانين. من هنا تقريباً عاد التشكيل إلى المدينة مع غياب معظم الفنانين بعدها لفترة، ومع العقوبات والحصار الذي فرض علينا والوضع الاقتصادي ومتطلبات المعيشة الصعبة دفع بالفنان إلى التوقف عن العمل بسبب غلاء المواد إلى حدّ أصبح من الصعب تأمينها، ورافق ذلك عملية الاقتناء التي أصبحت معدومة، وكذلك غياب الأشخاص الذين كانوا يقومون بعملية التسويق والاقتناء، كلّ هذه العوامل لعبت دورها في توقف الحركة التشكيلية.
وضمن هذا السياق، يعتبر الفنان فادي يازجي أن احتراف الفن هو طريق حياة، ليس له علاقة بالظروف المادية، وهو في ذلك لم يعِ ما هو طريف لتقديم ما لدى الفنان من فكر ومعرفة وحلم، طبعاً الوضع المادي يساعد على تحقيق أكبر من الابتكار والمغامرة.
أما بخصوص قبل الحرب أو بعدها، فقد كانت البلد بوضع اقتصادي مستقر نسبياً، أما الآن فنحن بعزلة كاملة، ونظرتي متشائمة في الحقيقة حول آفاق المستقبل، ليس هناك أفق للفن والمبادرات فردية، لها علاقة بالفنان بشكل شخصي.
آصف إبراهيم