ثقافةصحيفة البعث

هذه هي “جدران العزلة” كما يرويها خليل العجيل

“هل أنا مجرّد كائن افتراضي أم هلامي؟ أم كائن حبري أم مجرد جثّة أعوم على سطح البحر منذ محاولتنا أنا وحبيبتي لعبور البحر فغرقنا؟ أم أنا لوحة من لوحات العزلة للرّسام سبهان آدم؟”.. أسئلة كثيرة وغيرها من الأسئلة التي يعيدها “آدم” إلى ذاكرته التي لم تجفّ بعد من آلامٍ سجّلها وهو في سجون الإرهاب قبل خروجه بعملية تبادل، يقول: “كان الباب الشّاهد الوحيد على آثار السّياط على ظهري وما تزال مطبوعةً كوشمٍ، عندما خرجنا اكتشفنا أنّنا كنّا أحد عشر رجلاً.. هم أصدقائي، وكنّا محشورين في غرفةٍ باردةٍ مظلمة وفراش مغطّس بالماء”.

ينتقل “آدم” القادم من الحسكة إلى دمشق، متخلصاً من لعنة الفنادق أو غرفة للإيجار على سطح في مكان مخالف يكتظّ بالسّكان، وحاملاً بيده مفتاح بيت صديقه “وسيم” الذي يؤدّي خدمة العلم الإجبارية منذ عشر سنوات في إحدى القطع العسكرية المقاتلة في الخطوط الأمامية في العاصمة بعد أن أنهى دراسته الجامعية وحصل على إجازة في الحقوق، ويعود روحاً جميلةً محمولةً على أكتاف رفاق السّلاح سعيدةً بأنّها لم تستلم ولم تهادن ولم تنهزم.

استراحةٌ قصيرةٌ في المنزل قطعتها طرقات قوية على الباب لامرأة ثلاثينية “سمر” تعمل في خدمة المنازل في الحي، لكنّه يعتاد على رائحة طبخها الطّيب ورائحة النّظافة ورائحة جسدها الذي التصق بملابسه وسريره مرّات كثيرة أن تكتشف خيانته بحدس أنثى عاشقة تعرف أنْ لا مكان لها في مستقبل هذا الصّحفي والكاتب الذي راح قلبه يطارد فتاةً “مريم” صادفها في الحافلة وسار خلفها ودسّ رقم جوّاله في جيب سروالها الخلفي لتضيع منه أكثر من مّرة ثم يلتقيان ويتيهان في حقول الحبّ وغاباته، ومن ثمّ تغادره هي الأخرى إلى غير رجعة ملبيةً نداء الحاجة للعمل والسّفر لضمان حياة أفضل لأسرتها، ومثلها أيضاً وبعد سنوات من لقائه بصديقةٍ قديمة “جولييت” تفاجأ بوجودها في الحي ذاته مع طفلتها الصّغيرة، مفاجأةٌ أدخلت الاستقرار إلى حياته الرّتيبة، إذ صارا يذهبان إلى السّوق ويتناولان الطّعام، وبعد فترةٍ قصيرةٍ تصارحه بأنّها ستذهب إلى بيروت مدّة شهرٍ، لكنّها تذهب من غير رجعةٍ كسابقها من أصدقائه ومعارفه.

عزلةٌ تامّة يعيشها رجل من جيلٍ ما إن بدأ خطوته الأولى في تحقيق أحلامه حتّى بدأت الحرب تنهشها واحداً تلو الآخر، يقول: “أنا من جيل الثّمانينيات، جيل المهزومين والمقهورين، جيلٌ لم يتذوّق طعم النّصر مرّة واحدةً في حياته، ما إن بدأت أحلامنا وحياتنا حتّى اشتعلت ناراً تأكل الهشيم.. الحرب التي جعلتنا كائنات غريبة”.. عزلةٌ ضاعف وباء “كورونا” حدّتها وقسوتها، فجميع الدّول فرضت حجراً صحياً كان بمثابة الضّربة القاضية للقمة عيش كثير من العائلات والدّول الفقيرة، ومثله مثل بقية السّوريين يتساءل كيف لنا أن نواجه هذا المرض اللعين بعد سنواتٍ طويلةٍ من الحرب.

بهذه السّلاسة الموجعة يحكي الرّاوي “آدم” والرّوائي خليل العجيل -في روايته “جدران العزلة”- بعضاً من عزلةٍ عاشها رجل فقد ذراعه في الحرب واستبدلها بواحدة اصطناعية، ويعيشها كثيرون في أماكن معروفة من قبل القارئ ويصفها العجيل ببساطة تفاصيلها وغني ذكرياتها، بدءاً من حارته “كشكول” أحد الأحياء الشّعبية العشوائية حيث الأبنية المتقاربة والأبواب المتقابلة والطرق الضيّقة إلى أزقةٍ وشوارعَ لم يكن قد زارها سابقاً، وصولاً إلى قهوة الرّوضة حيث يجلس دائماً وفي المكان ذاته المطلّ على الشّارع يراقب المارّة ذاك الرّوائي الذي يتابعه على الجدران الزّرقاء، معجباً بتفاصيل حياته ونجاحاته وحتّى تلك النّظرة الغريبة التي رمقته بها، هكذا هي شخصيات العجيل، واضحةٌ حسبما يصفها، لكنّها في الحقيقة غامضة لا تتحدّث عن ذاتها إلّا قليلاً، فصديقه وسيم حسب وصفه يتمتّع بشخصية مرحة وجسد رياضي وهو إنسان غير مبالٍ لا يتذّمر ولا يشتكي، لكن لم نتعرف عليه من خلال عبارةٍ أو نكتة.

بقي أن نذكر أنّ الرّواية تقع في أربع وتسعين صفحة من القطع المتوسّط، وأنّها فائزة بالمرتبة الأولى في مسابقة “التّكافل الاجتماعي في زمن الكورونا للإبداع الرّوائي عام 2020” وصدرت نسختها الأولى عام 2021 عن دار بعل للطّباعة والنّشر.

نجوى صليبه