سباق التسلح والسياسة الأمريكية.. من الحرب الباردة إلى الأزمة الأوكرانية
شادي العاني
يُعد التسلح ظاهرة قديمة عرفتها المجتمعات والدول على مرّ التاريخ، ومن هذا المنطلق أصبح هذاالأمر بالنسبة للكثير من الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، عنصراً للمنافسة والهيمنة، باعتبار أن قوة الدولة تكمن في مدى قدرتها على امتلاك السلاح، ولذلك بات التسلح واحداً من أصعب الموضوعات في السياسة الدولية.
واعتُبرت قضية سباق التسلح من أهم القضايا التي تميزت بها العلاقات الدولية في إطار الحرب الباردة، نظراً لما كان لها من تأثير على الوضع السياسي في العالم بأكمله؛ إذ تحول هذا الموضوع إلى عنوان للعلاقات الدولية ومعيار يقاس به التفوق الدولي، وأصبح التسلح وسيلة لتحقيق المصالح السياسية، ولم يعد مصطلحاً عسكرياً فحسب، بل تحول إلى نمط للعلاقات تسعى من خلاله الدول الغربية الامبريالية لفرض سلطتها وهيمنتها وإثبات تفوقها، وتعددت أشكال التسلح ومفاهيمه ابتداءً من استكمال قدرة الدول على مواجهة العدوان وحماية الأراضي وصولاً إلى السعي للهيمنة السياسية والاقتصادية والجغرافية على الدول والسيطرة على الثروات.
لقد عُرفت الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بمرحلة “العصر النووي”، ولم تكن هذه التسمية عفوية، ولكنها بنيت على أساس امتلاك بعض الدول وسعي دول أخرى لامتلاك الأسلحة النووية، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي التي افتتحت العصر النووي مع نهاية الحرب العالمية الثانية حين قامت بأول تفجير نووي في العالم في صحراء نيو مكسيكو، في 16 تموز عام 1945، وأتبعت ذلك بإلقاء قنبلتين ذريتين على اليابان في 6 آب، و 9 آب، من العام ذاته. وقد أدت فظاعة هذا التدمير إلى استسلام اليابان، وامتد دوي صداهما ليهز دول العالم في سياساتها واستراتيجياتها، ما دفع الدول الكبرى لخوض سباق هائل للحصول على السلاح النووي.
وتصاعدت وتيرة هذا السباق على خلفية الصراع الإيديولوجي بين الشرق والغرب في فترة الحرب الباردة، لكنه لم ينته بانتهائها، بل واصلت الولايات المتحدة سعيها في هذا المضمار، وبأشكال وطرق مختلفة من خلال الإنفاق العسكري الضخم وشركات السلاح، ما وضع العالم على حافة الانفجار، الأمر الذي ولّد آثاراً سياسية تمثلت في زيادة حدة التوتر بين الدول وتكريس تبعية الدول المستوردة للأسلحة للدول المصدرة لها.
ويظهر التناقض الحاد في السياسة الأمريكية حيال هذا الأمر في موقفها المزدوج: “الرافض” لامتلاك إيران قوة نووية لأغراض سلمية من جهة، و”المبارِك” للكيان الصهيوني بامتلاك أكبر ترسانة نووية من جهة ثانية. ويأتي تمدد الناتو إلى حدود روسيا بهدف السيطرة على أوروبا الشرقية لمحاولة جعلها عازلاً بين روسيا من جهة وألمانيا وفرنسا من جهة أخرى.
وتأتي اليوم الأزمة الأوكرانية ليتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي: ما الذي كانت ستفعله واشنطن لو أن روسيا قررت إقامة قاعدة صواريخ على مقربة من السواحل الأمريكية؟
وهنا نستذكر أزمة الصواريخ في كوبا التي اندلعت عام 1962، وإذا كانت الولايات المتحدة لم تستوعب حينذاك مجرد فكرة أن يقوم الاتحاد السوفييتي السابق وقتها بنصب صواريخ في كوبا؛ يصبح السؤال الذي لا مفر منه هو: كيف يجوز للولايات المتحدة وحلف الناتو أن يحوّلا أوكرانيا إلى قاعدة صواريخ؟ وكيف لروسيا أن تستوعب مجرد فكرة أن تحمل الولايات المتحدة صواريخها لتنصبها على حدودها مباشرة وذلك بمجرد قبول عضوية أوكرانيا في الناتو؟
إن جزيرة القرم طبعاً هي جزء من هذه الأزمة، والتي أدت إلى فرض عقوبات قاسية ضد روسيا منذ عام 2014 ونتج عن ذلك إبعادها عن مجموعة “الدول الصناعية الثماني”. وهو ما يكشف حجم القسوة في رد الفعل الغربي تجاه روسيا، حتى عندما يتعلق الأمر باستعادة جزء من أراضيها.
ومهما كان الموقف الروسي الذي يتعامل اليوم مع الأزمة الأوكرانية بمنتهى الحكمة والرويّة من جهة، وبكثير من الحزم من جهة ثانية، فإنه سيكون أقل بكثير مما كان عليه موقف إدارة الرئيس جون كينيدي وما كان يهدد بفعله في عام 1962 في أزمة كوبا.
ومع تضارب وتأرجح التصريحات الأمريكية والغربية حول الوضع في أوكرانيا، صدر موقف واضح لا لبس فيه من القيادة الروسية بيّن أن مسألة الأمن بين الدول غير قابلة للتجزئة، وهي حق يتساوى فيه الجميع، في الوقت الذي تتعامل الولايات المتحدة وحلفائها مع مسألة الأمن على أنها مسألة استنسابية تخضع لمصالحها وأهدافها وتقديراتها.
وقد باشر الإعلام الغربي، ومنذ تفاقم الأزمة بممارسة دوره التضليلي المعتاد، والذي يمارسه باستمرار في كل الأزمات، وأخذت عبارة “الغزو الروسي الوشيك لأوكرانيا” تتكرر باستمرار في جميع وسائل الإعلام الغربية وكأنها، بل هي فعلاً، جملة متفق عليها مما انعكس سلباً على السكان في أوكرانيا نفسياً واقتصادياً.
ومع تواجد قواعد الناتو بإشراف جنود أمريكيين وعناصر الدرع المضاد للصواريخ على الحدود الروسية، وفي الوقت نفسه بقاء الجنود الروس ضمن أراضي روسيا في محاولة منها لتشجيع أعضاء الناتو والولايات المتحدة على الانخراط في مفاوضات جادة، قدّمت روسيا مقترحاتها إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مثل وقف توسيع الحلف وعدم شموله لأوكرانيا وجورجيا، وكذلك تقييد أنظمة التسلّح في أوروبا بما في ذلك الصواريخ التكتيكية والاستراتيجية، وهي مقترحات منطقية من أجل توازن أمني وجيوسياسي أوروبي وعالمي أفضل، ومن أجل وقف الانجراف المتمثل في جعل المشروع الأوروبي الذي يجسّده حلف شمال الأطلسي أداة ضد روسيا خاصة وأن روسيا لا تشكل أي تهديد لأحد.
إن مراقبة المشهد الأوكراني تستدعي نظرة شاملة للمشهد العام للواقع الجديد على الساحة الدولية، ذلك المشهد الذي بدأت ملامحه تأخذ أبعاداً جديدة تمهد لمعادلات جديدة للمنظومة الدولية، وإذا كانت السياسة الأميركية في شرق أوروبا ترتكز على التصعيد في وجه الدولة الروسية، فإن هذا التصعيد من قبل الولايات المتحدة ضد روسيا يرتبط بحسابات تتعلّق بمحاولة الإبقاء على المعادلات القديمة، وتتعلق أيضاً بالمشروع الأمريكي المتصدع لمحاولة استمرار الهيمنة على العالم، وبالأحادية القطبية الأميركية الآيلة إلى السقوط بعد وقت لن يكون ببعيد.