في معرض سلوى فلوح: الأرض يجب أن تشيخ كي تبقى دائماً طفلة
تُعرض حالياً في صالة البيت الأزرق لوحات للفنانة الراحلة سلوى فلوح، وبهذا المعرض تكون هذه الصالة الجديدة قد خطت خطوتها الثانية بعد الافتتاح الكبير الشهر الماضي بمشاركة نخبة واسعة من التشكيليين السوريين، هذه الصالة الجديدة الكائنة في منطقة ساروجة القديمة ضمن بيت عربي دمشقي يتصف بإدارة تفيض بالودّ والحب، وربما تستطيع في المستقبل أن تكون إحدى روافع الفن التشكيلي السوري مع باقي صالات العرض الأخرى التي تساهم من خلال عروضها الفنية بتقديم الفن التشكيلي بالصورة اللائقة بسمعة هذا الفن في بلد تعاني آثار الحرب، لكن أهلها ما زالوا رغم كل شيء يعيشون بعضاً من الجمال وينتجونه دفاعاً عن الحياة. هذا المعرض الذي يمكن أن نسميه معرض السيدة الجدة التي تفتحت موهبتها بالرسم وهي في الثمانين، ربما تستعيد تلك البلاد التي كانت فيها طفلة حين كان الأهل يذهبون إلى حقولهم وحصادهم تاركين صغارهم للشمس والتراب والقمح، يتشاركون مثل الرعاة والغزلان البرية الطريّ مما تنبته خصوبة البلاد وعذرية ربيعها.
لوحات رُسمت قبل عشرين سنة تقريباً من الآن، وكأنّ هذا “الآن” معلق بجذع شجرة عند مغيب الشمس.. الجدة ترسم لنا روايتها عن الجنة وتصوّر لنا بياض الغيم في سماء صافية.. ربما ترسم لتؤثث بيتها بستائر مزركشة بالورد وتعلق على شبابيكه الزرقاء تمائمها لندرك أن القلب سيتسع في حضورها وسماع صوت من غابوا في البعيد.
كتب كارلوس بارونا ناربيون مدير معهد سرفانتس بدمشق في أيلول 2002 وقام بالترجمة الأديب رفعت عطفة بمناسبة معرضها الأول حينها: ما النسيج الخفي الذي يمكن أن يدفع امرأة في الثمانين من عمرها لترسم لأول مرة حيوانات غير معهودة ونباتات غير مألوفة، تترك العين محمّلة بأكثر ما يميّز العوالم إن لم يكن القدر، تلك هي العصافير والأشجار والغزلان والشموس والأزهار والسموات التي شاهدتها سلوى في طفولتها، في مسقط رأسها سورية، وهي رسوم تملك سذاجة وعبق الأطفال، لكنها في الوقت ذاته ليست رسوم أطفال كما يمكن أن تصنّف على أنها تنتمي إلى فن “الناييف” أو الفن الساذج، إنها باقتصادها بوسائلها وأدواتها المدرسية تجعل شيئاً منها يكون في أصل الكائنات التي تولدها، إنها تركيباتها الغريبة وألوانها المدهشة تشي بأنها امرأة لم تقم قط معرضاً ولا أطلعت أحداً على رسوماتها غير أفراد أسرتها والمقربين، إنها تملك سرّ توليد وتخليق الكائنات، لذلك فهي قديمة قدم الأرض وخصيبة كخصوبتها، عالية وعميقة الأغوار، وفي آن طفلة برسوماتها الهشة وورقها المجعد.
هذا الكون مجتمع في رسومات ورؤى سلوى ببساطة تصاعدية، إن الأشجار المتوّجة بالنور والورد والمكللة بهالات النباتات ووجوه الغزلان التي تسائلنا، غروب الشمس الملغز والتحليق العابر لآخر عصفور جميعها تقريباً من سماء دانية من الأرض، قبل أن يتمرد الزمن على مولدها ويفرق بينهما مع ابتداء الليل والنهار.. هذه المشاهد موجودة في لوحات سلوى قبل أن يحدث هذا الافتراق قبل ولادة الساعات ومرور الدقائق، وقبل أن تشرع بحركتها الدائرية التي بدأت في طفولتها وتدركها الآن في موسم مؤجل، لكن ما الدافع الذي جعلها حقيقة تدفق ذات يوم ما اختزنته وتراكم في داخلها ثمانية عقود؟ لم تتمكن من الكشف عنه خلال حديثها الحار معنا، فمن المحتمل أنها تجهله، فقط قالت لنا كيف بدأت ذلك قبل ثلاث سنوات، حين رأت حفيدتها ترسم، وربما هذا ما جعلها تستعيد تلقائياً صورة رأسية وعالقة في الماضي تلحّ عليها كي تستعيدها لتجد لها مخرجاً لم تملكه من قبل لأسباب عائلية واجتماعية، من الصعب تصوّر هذا التراكم كما من الصعب تصور الصهارة الحمراء في باطن الأرض أو حضور نمو النباتات البطيء، لكن ذلك كله حقيقة، فالأرض يجب أن تشيخ كي تبقى دائماً طفلة.
ولدت الفنانة في حوران- قرية بصير 1920 وهي كبرى أخواتها الخمس، ولم يتسع لها الوقت للتعبير عن ميولها الفنية لانهماكها بتربية أولادها التسعة ولم تتلق علوماً في تقنيات الألوان، بدأت الرسم في الثمانين من عمرها لتنقل ما تراكم في مخيلتها وروحها من رؤى مستوحاة من الطبيعة وألوانها، وقد أنجزت هذه الأعمال بين العام 2000 و2002.
أكسم طلاع