ثقافة

العرض المسرحي “بروفة جنرال” مسرح الحياة عن الحياة

“بروفة جنرال” العرض المسرحي الذي قدمته فرقة المسرح القومي باللاذقية على خشبة المسرح القومي، بعد أن أعده وأخرجه عن نص “زيارة الملكة” للراحل “ممدوح عدوان” المخرج المسرحي المخضرم “سليمان شريبة ” وقام بتأدية شخصياته وحكايتها على الخشبة ببراعة فنانون مخضرمون كالفنان المسرحي “فايز صبوح” والفنان “حسين عباس” وأيضاً الفنان المفاجئ على الخشبة “مجد يونس أحمد”، ومن المسرحيين الشباب أيضاً بدت الحماسة المطلوبة والطاقة العالية التي يحتاجها العمل المسرحي عموماً منهم، وإن تفاوتت سويات الأداء لدى هؤلاء الشباب الذين  بدوا تنقصهم الخبرة والدربة والتمكن في امتلاكهم لأدوات الممثل المسرحية ومنها تطويع طبقات الصوت لتكون في خدمة العمل، حيث بدت الأصوات متنافرة فيما بينها والحوارات التي قدمتها غير منسجمة بطبيعتها الصوتية مع الشخصية الدرامية، فالعرض اعتمد على لوحات جانبية داعمة للسياق الفرجوي العام، قدمها أولئك الشباب برشاقة وطاقة عالية دون أن يكونوا مجاميع مسرحية فقط هو مكون هام وضروري من مكونات العرض.
“بروفة جنرال” حقق بالفرجة التي قدمها لجمهور المسرح اللاذقاني كل متع العرض المسرحي الكلاسيكي الحسية منها بشكل خاص”فشريبا” الذي أراد أن يسقط “نبوءات “عدوان” في “زيارة الملكة” على الوقع هنا والآن، لم يسع للعمل خارج الأطر الكلاسيكية للعرض المسرحي شكلاً ومضموناً، إن كان في رتم العمل المتسارع أو في ثيمته التي تهم الجمهور هنا والآن، بما تحمله من مضامين درامية تحمل نبضاً قوياً من نبض الشارع السوري، الذي صار واثقاً من أن الفساد المستشري في الدوائر الرسمية كان من الأسباب التي سهلت للعدو مهمته في محاولته تدمير سورية، إلا أن أسلوب “شريبا” الذكي في ربط هذا التصور بمظلومية يعاني منها العديد من الرجال الذين نحن هنا “نحيا ونشاهد مسرح ونكتب عنه.. الخ ” لأنهم اختاروا أن يكونوا في الجبهة مؤمنين باكتمال الرسالة بين  حرب الداخل المتمثلة في الفساد والبيروقراطية والأمراض الاجتماعية الطبقية التي هشمت دواخلنا، وحرب الخارج التي عاشوا على جبهاتها وبكل بسالة لأربع سنوات ونصف وما زالوا يحيونها، جاء ربطاً عاطفياً وعقلانياً، محققاً توازناً هاماً بين منهجين أو مدرستين مسرحيتين مختلفتين بالأسلوب والتكتيك تماماً في عرض واحد، فالجندي الذي فقد ساقيه في المعركة -أدى دوره بإحساس عال الفنان “نضال عديرة”- هو على موعد مع تكريم لبطولته، إلا أن هذا التكريم سيتم تسليعه أيضاً من قبل مدير المشفى الفاسد وأحد الأطباء الذين سقطوا أيضاً في فخ المتاجرة بالألم، ورجل من العامة قادته الصدف أيضاً لأن يكون شريكاً في تحويل هذا التكريم البسيط إلى عملية فساد ضخمة.
جرعة قسوة عالية قدمها العرض خفف من حدتها توظيف المخرج للعديد من المفردات باللغة الروسية في جسم الحوار، فأحرفها التي ستحمل معنىً استهزائياً عالياً ستضحك الجمهور بالمفارقات اللغوية بين المعنى والإيحاء، أيضا مساحة الارتجال الواسعة التي جال وصال فيها “عباس” بحسه الكوميدي، كسرت من شدة الحدة والقسوة في “بروفة جنرال”.
خشبة المسرح التي كاد الفنان “فايز صبوح” أن يكسر قدمه بسبب تهالكها، حملت عرضاً ثقل العاطفة إلى وجدان الجمهور اللاذقاني المتعاطف وجدانياً مع حكايات الجنود العائدين من الحرب بإصابات لا تشفى، فمنهم  الأخ أو ابن العم أو أحد أحبته في هذه الحالة، وهنا يحسب لـ المخرج، ذهابه نحو خيار النص المحلي الأقدر على معرفة بواطن الوجع من أي نص عالمي آخر، فهذا الخيار الموفق برأيي الشخصي وبشهادة الجمهور الذي صفق للعرض طويلاً خلال أيام عرضه بعد أن غصت بهم قاعة المسرح القومي، احترم ذائقة الجمهور باعتباره كائناً تاريخياً وجغرافياً يعنيه ما يحدث الآن وكيف يحدث، فقدم له ما يعتمل بدواخله من هواجس وأسئلة وحتى يقين، وأيضاً قدم عرضاً مسرحياً يحمل العديد من الرسائل التحذيرية المهمة التي صارت حديث الناس، وعرض لوجع شريحة من أنبل السوريين وأكرمهم، وهم رجال الجيش العربي السوري، الذي تقاعس مسرح العاصمة وتلفازها وسينماها عن تقديم ما يليق ببطولاتهم وجسام تضحياتهم، ليكون موقف كل من شارك بالعرض موقفاً واضحاً وجلياً لا لبث فيه ولا يحتمل الشك بأن هذا الجيش هو أمل السوريين في عودة الحياة إلى حياتهم، لا كما حدث مع الكثير من فنانينا الذين التزموا الصمت والحياد خوفاً على عمل مع شركة إنتاج خليجية، أو لكي لا يكون لهم موقف واضح ومحدد بحيث يستمرون في اللعب على الحبلين كما يقال.
تمام علي بركات