التصدع الجيوسياسي بين أمريكا والغرب
محمد نادر العمري
أظهرت أفغانستان حجم ومدى اتساع دوائر التعقيد الذي باتت تتسم به العلاقات الدولية في طورها الحالي، حيث شكل الانسحاب الأميركي هزة جيواستراتيجية على المستوى العالمي، وهو أحد مظاهر هذا التعقيد وأولها في الفترة الحالية ومازالت تداعياته مؤثرة بشكل لا يمكن تجاهله، وبخاصة إنه بيّن مدى ابتعاد أميركا عن واقع تغير موازين القوى وشكل النظام الدولي، والذي لم يكن مطروحاً بهذا الشكل قبل عشرين عاماً، حينما احتلّت الولايات المتحدة الجغرافية الأفغانية وغزتها، على إثر هجمات 11 أيلول 2001.
التداخل الكبير الحاصل بين مصالح الدول المختلفة في أفغانستان، غداة سيطرة طالبان عليها، يطرح سؤالاً عن المتغيرات التي باتت تحكم الوضع في أفغانستان وأثره على التركيبة الدولية والسلوك المتصارع، جراء فشل السياسة الأميركية في إرساء ماروجت له تحت مسمى “نموذج حكم معتدل”، وهو أمر يقود، بالإضافة إلى تعثر نموذج القيادة الأميركي للمرة الثانية في السيطرة على الدول، بعد تجربة العراق، إلى المزيد من التشابك في مستويات الصراع، بحيث أخذ أكثر فأكثر طابعاً دولياً متعدد الأقطاب، ولكن بالمعنى المضاد للمركزية التي تريدها الولايات المتحدة الأميركية، وبدرجة أقل الأوروبية منها.
هذا الواقع من الهزيمة المرة، والتي تلذذ عقمها الديمقراطيون بشكل خاص، دفعهم لوضع استراتيجية للرئيس الأميركي جو بايدن تتضمن ضرورة ظهوره بمظهر المدافع عن شخصية أميركا القوية والدفاع عن مصالحها أمام عودة نفوذ روسيا الاتحادية في الساحة الدولية، واستشعر الحلفاء الغربيون خيراً بهذا التوجه ما دفعهم لعودة التنسيق مع واشنطن، وهو ما برز غداة القمة الأخيرة التي جمعت بايدن بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جنيف، على اعتبار أن اللهجة القوية المستخدمة حينها كانت تبشرهم بعودة الولايات المتحدة لسياسة القيادة النشطة على الصعيد العالمي، بعد التخلص من إرث ترامب الانعزالي، في السياسة الخارجية، وهو ما أوحت به بعض التصريحات السياسية لوزراء خارجية الأطلسي.
صحيح أن الانسحاب من أفغانستان شكل لهؤلاء الحلفاء حالة من الصدمة، وأثر على بعض دوائر صنع القرار الأوروبية وحتى الأطلسية، تعليقاً على شكل الانسحاب وتداعياته على الموقف الجيوسياسي للغرب، حيث بدا جلياً على أثر ذلك أن ثمة وجهة نظر في الدول الصانعة للقرار الأوروبي، مثل ألمانيا وفرنسا، بدأت بالتشكيك ليس فقط بسياسة الجمهوريين أثناء ولاية ترامب بل بالسياسة الأميركية عامة، حتى لدى الحلفاء الديمقراطيين من حيث وحدة الموقف الجيوسياسي الغربي في مواجهة القوى الصاعدة وعلى رأسها الصين وروسيا.
إذاً، باستثناء وحدة الموقف من السياسة الروسية في أوكرانيا وبيلاروسيا ودول البلطيق، ثمة تصدعات فعلية على كل صعيد آخر من الموقف من الصين والحرب التجارية معها، إلى الخلاف حتى مع الديمقراطيين، على وتيرة الانتهاء من الملف النووي مع إيران، وصولاً إلى ملف كوريا الديمقراطية، وغيرها من الملفات، وهو مادفع إدارة بايدن لاستغلال نقاط الالتقاء لتأزيمها على نحو يحافظ على النفوذ الأمريكية في ضبط العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين وإبقائهم تحت التبعية الأمريكية. ومن هنا جاءت إدارة الأزمات في ملف اللاجئين على الحدود البيلاروسية لاتهام روسيا بافتعاله والوقوف خلفه لتهديد أمن أوروبا بالرغم من العدد القليل لهؤلاء اللاجئين، بالتزامن مع اتهام روسيا الاتحادية بأنها تهدد أمن أوكرانيا وأوروبا من خلالها التحضير لغزوها وحشد مئة ألف جندي، وهو مايمنح بايدن وسيلة في إدارة توزيع الأدوار مابين الأوروبيين والأطلسي، وفي ذات الوقت يزيد من النفوذ الأمريكي في مراكز صنع القرار الأوروبي، ويحتوي توجهاتهم من تعاون مع روسيا لمرحلة العداء عبر إثارة الفوضى.
صيغة التصدع الجيوبولتيكي موجودة في الغرب، وهو ما أكدته مراكز الأبحاث بما في ذلك معهد “كارنيغي” للدراسات والذي قدم في ورقته البحثية مع نهاية عام 2021 مقاربة تتضمن الاعتراف بأن “التصدع قائم” وأن “محاولات أميركا في عهد بايدن لن يؤدي لمعالجة التصدعات الحاصلة”. ولتأكيد ذلك، من المؤكد اليوم أن المحاولات الأمريكية في افتعال الأزمات بين أوروبا وروسيا ووقف التعاون بينهما، والبحث عن موارد طاقة تكون بديلة عن الطاقة الروسية، ومحاولة احتواء الصعود الأخيرة، وافتعال الفوضى ضمن الإطار الحدائقي للجغرافية الروسية هي مجرد دوافع أمريكية لتحسين الواقع الشعبي والانتخابي لبايدن والديمقراطيين على المستوى الداخلي، ولإخفاء حالة التصدع الجيوسياسية يلجأ نحو تأزيم الملفات والأزمات والصراعات التي ظهرت بعد الانسحاب من أفغانستان.