العتبات والجوهر الإنساني
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
كثيراً ما تتردد مقولة “الصدر لك والعتبة لنا” للترحيب بالضيوف، والعتبة المقصودة في هذه العبارة هي تلك القطعة الرخامية أو الخشبية التي تلصق بالباب الخارجي للبيت والتي تفصل بين عالمين العالم الداخلي للبيت وخصوصية الأسرة وحياتها، وبين العالم الخارجي الذي يفصل الأسرة عن الشارع بضجيجه وضوضائه كأصوات الباعة والسيارات وحركة الناس.. الخ، ومع ذلك هذان العالمان متكاملان مع بعضهما البعض.
وفي نظرة متأنية لتفاصيل حياتنا نتوقف عند عتبات كثيرة تكون فاصلة في انتقالاتنا الحياتية فلحظة الولادة مثلاً هي العتبة الفاصلة بالنسبة للجنين بانتقاله من رحم الأم وعالمه الدافئ الذي يعيش فيه لشهور تسعة ثم خروجه إلى الحياة وماينتظره من تفاصيل حياتية سيعيشها ويعيش معها عتبات كثيرة ليس أولها دخوله إلى المدرسة ومواجهته للعالم الخارجي وتعرفه إلى أشخاص يختلفون عن أسرته مما يشكل له عوالم تتوالد منها عوالم أخرى في المراحل الدراسية المقبلة وكل مرحلة تمثل عتبة جديدة في حياته.
وجميعنا يتداول تعبير “على عتبة حياة جديدة”، وتعني وقت التغيير الذي يرتبط مع بهجة وأفراح مجهولة يعيشها المرء، كما يخفي أحداثاً ومواقف قد لا تخطر في بالنا وهذا ما يتمثل في مفرداتنا كقولنا “على أعتاب العام الجديد” وما تحمله هذه العبارة من معان حيث يقوم الجميع ببناء خطط بعيدة المدى ويحلمون بإنجازات جديدة.
ومن العتبات التي يعيشها المرء ولعلها العتبة التي تحمل خلاصة حياتية مهمة هي العتبة الوظيفية التي يقضي فيها عمراً من الزمن تنظم رتم حياته تفاصيل يومية ثابتة تتكرر يومياً وعلى أساسها يتم ترتيب تفاصيل الحياة الأخرى، لتأتي لحظة من العمر تضع نهاية لهذه التفاصيل وتبدأ عتبة جديدة لمرحلة مايسمى بــ”التقاعد الوظيفي” ليبدأ المرء بترتيب أمور حياته بطريقة وأسلوب مختلف عن المرحلة الحياتية السابقة حيث يسعى لاستثمار الوقت لإنجاز ما قد يكون قد تراكم في المرحلة السابقة في مشروع ما خاص به يجسد اهتماماته ويحمل شيئاً من روحه.
أما في الأدب كالرواية والشعر والقصة فإن العتبات عموماً تبدأ من العنوان مروراً بعلامات الترقيم والألوان ونوعية الغلاف والتواريخ والتمهيد والخاتمة، وهذه كلها عتبات توصل المتلقي للغاية من النص وقراءته وكشف دلالته وكلها ترتبط ببعضها فلا يكون العنوان في واد والغلاف في واد آخر، والنص الموازي هو “تلك العتبات والملحقات التي تمهد لنا الدخول لعالم النص، إذ قد يثير العنوان في ذهن المتلقي تساؤلات عدة لا يستطيع الإجابة عنها ما لم يسبر أغوار النّص، وهذا ما عمد إليه الكثير من الأدباء، فخلقوا بذلك حالة من الإغراء توجد بين تفاصيل العنوان والنّص الأدبي، وبالتالي العنوان الأدبي هو أول لقاء يتمّ بين القارئ والكاتب، الذي يحاول من خلال عنوانه تحقيق ذلك، فكلّما كان العنوان باعثاً للغرابة والدّهشة تمكًن من إثارة رغبة القارئ وفضوله للإطلاع على تفاصيل الكتاب، ولأن العنوان يمثل عتبة النص الأولى اعتمدت بعض الصحف في فترة الثمانينات متخصصين لإعداد العنوان، ففن العنونة يحتاج إلى وعي بأهمية تحقيق معادلة الجمال وتمثيل المضمون باعتبارها مفتاح دخول بصري للكتاب، ويعد تصميم الغلاف الوجه الآخر لها، والأمر ذاته ينطبق على اللوحة التشكيلية والمقطوعة الموسيقية وغيرها من باقي الفنون.
إن بين العتبة المادية التي تمثل العنوان الأول للمنزل، والعتبة الزمنية التي تتم فيها النقلة النوعية للمرء في مراحل حياته المختلفة، هناك بعد آخر في هذه العتبات يحمل دلالات تماثل الأسطورة من خلال الرموز التي تتضمنها تفاصيلها قبل أن يتم بناؤها المادي أو الفكري، إنه البعد الذي يكمن في الجوهر الإنساني حيث عتبة الوعي هي التي تفرق بين الوعي واللاوعي في النشاط العقلي للإنسان.