مجلة البعث الأسبوعية

عبر إحياء قيم الدولة القومية ذات الهوية التاريخية حضور مهيمن في مجالها الجيوسياسي.. روسيا تحسم أمورها بالتوجه شرقاً

البعث الاسبوعية-هيفاء علي

أصدرت روسيا مؤخراً  تحديثاً لـ “مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي”. في هذه الوثيقة، حددت روسيا رؤيتها لدورها في بناء عالم متعدد الأقطاب، حيث تستذكر روسيا مواردها الهامة في جميع مجالات الحياة، ومكانتها كعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومشاركتها في المنظمات والجمعيات الدولية الرئيسية، وقوتها النووية وقدرتها كوريث لحقوق الاتحاد السوفييتي. وقبل كل شيء، نظراً لمساهمتها الحاسمة في الانتصار في الحرب العالمية الثانية، ومشاركتها النشطة في تصفية نظام الاستعمار العالمي، فإنها تؤكد نفسها كواحدة من المراكز السيادية للتنمية العالمية، وتعتبر مهمتها التاريخية الحفاظ على توازن القوى العالمي وبناء نظام دولي متعدد الأقطاب.

 تطور العالم المعاصر

تعتبر روسيا أن النموذج غير العادل للتنمية العالمية، والذي كفل لعدة قرون النمو الاقتصادي المتسارع للقوى الاستعمارية من خلال الاستيلاء على موارد مستعمراتها، أصبح الآن شيئاً من الماضي. قام الأنغلو ساكسون بمحاولات للاحتفاظ بالمسار الطبيعي للتاريخ باستخدام مجموعة واسعة من الأدوات غير القانونية، بما في ذلك تطبيق تدابير قسرية أحادية الجانب، أي تطبيق سياسة العقوبات، والتحريض على الانقلابات، والنزاعات المسلحة، والتهديدات، والابتزاز.

تعتبر موسكو أن العدو هو الولايات المتحدة التي شكلت تحالفاً من الدول المعادية تلعب فيه المملكة المتحدة دوراً مركزياً. ونظراً لأن روسيا هي أكبر دولة في العالم، فلا يمكن لجيش الولايات المتحدة الدفاع عن حدودها وحمايتها بما يكفي، فمن السهل غزوها. عبر التاريخ، تعلمت روسيا كيف تلحق الهزيمة بالغزاة باستخدام مساحتها الهائلة ومناخها لصالحها. لقد قاتلت بالتأكيد جيوش نابليون الأول وأدولف هتلر، لكنها قبل كل شيء أحرقت أراضيها لتجويع الغزاة والمعتدين. وبسبب عدم وجود قواعد خلفية قريبة، اضطر هؤلاء إلى التراجع وتم القضاء عليهم نتيجة الشتاء القارس والثلوج. على عكس الدول الأخرى، فإن أمن روسيا يعني ضمناً أنه لا يمكن لأي جيش معاد أن يتجمع على حدودها. ونظراً لأن تعزيز روسيا يمثل تهديداً للهيمنة الغربية، فقد استخدمت الولايات المتحدة وأقمارها الصناعية التدابير التي اتخذها الاتحاد الروسي لحماية مصالحه الحيوية في أوكرانيا كذريعة لتفاقم سياستها طويلة الأمد المعادية لروسيا، وأطلقت العنان لنوع جديد من الحرب الهجينة. ومن خلال المصالح الحيوية، يجب فهم خضوع الجيش الأوكراني للبنتاغون بعد انقلاب 2014.

أهداف ومصالح روسيا                                                            

تتمثل المصالح الوطنية لروسيا، كما وردت في الوثيقة، في حماية النظام الدستوري للاتحاد الروسي وسيادته واستقلاله وسلامة أراضيه ودولته من التأثير الأجنبي المدمر، والحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي، وتعزيز السلم والأمن الدوليين، وتعزيز الإطار التشريعي للعلاقات الدولية، وحماية الحقوق والحريات والمصالح المشروعة للمواطنين الروس وحماية المنظمات الروسية من التدخل الأجنبي غير المشروع. بالإضافة إلى تطوير مساحة كمبيوتر آمنة، وحماية المجتمع الروسي من التأثير المعلوماتي والنفسي الأجنبي عندما يكون مدمراً. كما شددت الوثيقة على ضرورة الحفاظ على الشعب الروسي، وتنمية الطاقات البشرية، وزيادة نوعية الحياة ورفاهية مواطنيها، ودعم التنمية المستدامة للاقتصاد الروسي على أساس تكنولوجي جديد. كما دعت الى تعزيز القيم الروحية والأخلاقية الروسية التقليدية، والحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي للشعب متعدد القوميات في الاتحاد الروسي، وحماية البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية وإدارة البيئة والتكيف مع تغير المناخ.

أما أهداف السياسة الخارجية الروسية فهي إقامة نظام عالمي عادل ومستدام، وصون السلم والأمن الدوليين، والاستقرار الاستراتيجي، وضمان التعايش السلمي، والتنمية المطردة للدول والشعوب، والمساعدة في تطوير استجابات فعالة ومعقدة من قبل المجتمع الدولي للتحديات والتهديدات المشتركة، بما في ذلك النزاعات والأزمات الإقليمية، وتطوير تعاون قانوني متبادل المنفعة ومتساوٍ مع جميع الدول الأجنبية التي لها موقف بناء وتحالفاتها، بما يضمن مراعاة المصالح الروسية في إطار مؤسسات وآليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف. بالإضافة إلى معارضة النشاط المناهض لروسيا الذي تقوم به الدول الأجنبية وتحالفاتها، وخلق الظروف لوقف هذا النشاط، وإقامة علاقات حسن الجوار مع الدول المجاورة، مما يساعد على منع وإزالة بؤر التوتر والصراع في أراضيها، ومساعدة حلفاء وشركاء روسيا من أجل تعزيز المصالح المشتركة وضمان أمنهم وتنميتهم المستدامة بغض النظر عن الاعتراف الدولي بهؤلاء الحلفاء والشركاء ووضعهم كأعضاء في المنظمات الدولية. وهناك أيضاً إطلاق العنان لإمكانات الاتحادات الإقليمية متعددة الأطراف، وهياكل التكامل وتعزيزها بمشاركة روسيا، وتعزيز مكانة روسيا في الاقتصاد العالمي، وتحقيق الأهداف الوطنية لتنمية الاتحاد الروسي، وضمان الأمن الاقتصادي، وتحقيق الإمكانات الاقتصادية للدولة، وتعزيز المصالح الروسية في المحيطات والفضاء الخارجي والجو العالمي. كما نصت الوثيقة على ضرورة تشكيل الصورة الموضوعية لروسيا في الخارج، وتعزيز مواقعها في فضاء الكمبيوتر العالمي، و تعزيز أهمية روسيا في الفضاء الإنساني العالمي، وتقوية مواقف اللغة الروسية في العالم، والمساعدة في حماية الحقيقة التاريخية والذاكرة حول دور روسيا في تاريخ العالم في الخارج. بالإضافة إلى الدفاع الشامل والفعال عن الحقوق والحريات والمصالح القانونية للمواطنين والمنظمات الروسية في الخارج، اذ لطالما اعتبرت روسيا نفسها حامية لأقليات الثقافة الروسية في الخارج، وتنمية العلاقات مع المواطنين المقيمين في الخارج، وتقديم المساعدة الشاملة لهم لإعمال حقوقهم وحماية مصالحهم والحفاظ على الهوية الثقافية الروسية العامة.

سيادة القانون

تم إنشاء القانون الدولي المعاصر في مؤتمر لاهاي عام 1899 من قبل القيصر الأخير، نيكولا الثاني، وشاركت فيه 27 دولة كرست نفسها للبحث عن أكثر الوسائل فعالية لتأمين فوائد السلام الحقيقي والدائم لجميع الشعوب استمرت مناقشات 72 يوماً، حيث تمت مناقشة ثلاثة مواضيع، ولكن نجح الموضوعان الأخيران فقط.

وتلك المواضيع هي أولاً: تحديد ميزانيات التسلح والقوى البشرية والعسكرية. ثانياً، وضع اتفاقيات تهدف إلى الحد، في وقت الحرب، من استخدام أكثر الأسلحة فتكاً والمعاناة غير الضرورية، حيث يتبنى المؤتمر بند “مارتنز”، الذي ينص على أنه لا يجوز بالتالي السماح بكل ما لا تحظره معاهدة صراحة. وبالتالي يضع أسس القانون الإنساني الدولي ويبرر وجود محكمة “نورمبرغ”. والموضوع الثالث هو الاعتراف، في الحالات المناسبة، بمبدأ التحكيم حيث تم انشاء محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي بناءً على اقتراح فرنسي، حيث ضم الوفد الفرنسي كلاً من ليون بورجوا، وبول دي ستورنيل دو كونستانت، ولويس رينو، وهؤلاء الثلاثة فازوا في وقت لاحق بجائزة نوبل للسلام. قدم هذا المؤتمر ابتكارين هما المساواة القانونية بين الدول مهما كانت، والبحث عن حل وسط والتصويت بالإجماع كمصدر للشرعية. إن أسلوب هذا المؤتمر، الذي طالما احترمته روسيا، يشكل طريقة تفكيرها، وطريقة تفكير الراديكاليين الفرنسيين في ليون بورجوا، وبالتالي لا ترى موسكو أنها تجد تعبيرها الحالي في ميثاق الأمم المتحدة الصادر عام 1945، وفي إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة الصادر عام 1970.

ومن خلال معارضتهم القانون الدولي، المعرّف به بشكل جماعي داخل الأمم المتحدة، يحاول الغربيون استبداله بمجموعة من “القواعد” التي حددوها في غياب كل القواعد الأخرى. إن تضافر جهود المجتمع الدولي بأسره بحسن نية، على أساس توازن القوى والمصالح، هو وحده الذي يمكن أن يكفل بفعالية التنمية السلمية والتدريجية للدول الكبيرة والصغيرة.

في وثيقة 31 آذار الماضي، تذكر روسيا أن عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا مرخصة بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وتشير إلى الهجوم الذي خططت له الحكومة الأوكرانية ضد دونباس، والتي نشرت منذ ذلك الحين أحد النصوص المشروحة على يد رؤساء الأركان الأوكرانيين. لذلك من المفهوم أن الاعتراف بجمهوريات دونباس كدول حليفة مستقلة لروسيا (اليوم السابق للعملية الخاصة) كان شرطاً ضرورياً لتطبيق المادة 51.

إنها مسألة إقامة علاقات تعاقدية بين الدول، مع العلم أن الأقوى يمكنه دائماً أن ينتهك كلمته ويدمر الأضعف. لذلك يجب أن تكون مصحوبة بضمانات تهدف إلى ثني أولئك الذين هم في موقع قوة عن إساءة استخدامها، حيث لا يمكن لهذه الأشياء أن تقنع إلا إذا كان لدى روسيا، مثل الآخرين، حرية الوصول إلى المساحات العالمية، بما في ذلك الفضاء، وإذا تم وضع آليات لمنع سباق التسلح.

وصف العالم متعدد الأقطاب

تقترب موسكو من العالم متعدد الأقطاب من خلال نظرة ثقافية للعالم، عاقدة العزم على الحفاظ على العلاقات مع جميع الثقافات، وتشجيع كل منها على إنشاء منظمات حكومية دولية، وتؤكد أنه عندما يطلب من الدول المجاورة عدم استضافة القوات والقواعد العسكرية من الدول المعادية على أراضيهم فذلك للمساعدة في الحفاظ على استقرارها، بما في ذلك من خلال مساعدتهم على قمع المناورات المزعزعة للاستقرار التي تقوم بها في الداخل دول معادية، وليس عليها أن تراقب بلا حول ولا قوة بينما تتبع دول أخرى المسار الأوكراني، وتطيح بالسلطات المنتخبة بالاعتماد على مجموعات النازيين الجدد. تولي الوثيقة أهمية كبيرة لتعزيز التعاون مع الصين والتنسيق مع عملها الدولي، ولذلك فهي مسألة ولادة عالم متعدد الأقطاب، ولكن ولدت من قبل قوتين، موسكو وبكين.

على المستوى العسكري، تستحضر موسكو شراكتها الاستراتيجية مع الهند، كما أن هناك مقطع خاص يتعامل مع العالم العربي الخارج من الهيمنة الغربية بانتصار سورية، واتفاقية السلام بين إيران والسعودية. بالنسبة لأوروبا الغربية، تأمل موسكو أن تدرك أخطائها وتبتعد عن الأنغلو ساكسون. حتى ذلك الحين، لا تشك روسيا في الناتو فحسب، بل تشك أيضاً في الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا، كما لا تضع روسيا نفسها على أنها عدو للغرب، ولا تنعزل عنه، وليس لديها نوايا معادية تجاهه، بل تأمل أن يدرك الغرب في المستقبل عدم جدوى صراعهم السياسي، وأن تعود الى احترام مبادئ المساواة في السيادة واحترام المصالح المشتركة. وفي هذا السياق، يعرب الاتحاد الروسي عن استعداده للحوار والتعاون. وفيما يخص سياسة روسيا تجاه الولايات المتحدة، فهي ذات طابع مزدوج، حيث تأخذ في الاعتبار من ناحية دور هذه الدولة باعتبارها واحدة من المراكز السيادية المؤثرة في التنمية العالمية، من بين أمور أخرى، ومن ناحية أخرى باعتبارها الإلهام الأساسي والمنظم والمدير لسياسة الغرب العدوانية المعادية لروسيا، ومصدر المخاطر الأساسية لأمن الاتحاد الروسي، والسلام الدولي، والتنمية المتوازنة والعادلة والتدريجية للبشرية.

حقيقة، يمزج التصور الروسي الجديد للأمن القومي لحالة النظام الدولي بين تفاؤل حذر بالتراجع المستمر للهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، وقلق عميق من التغيرات الدولية الناجمة عن هذا التراجع الذي يُتوقع أن تجابهه مقاومة ضارية من الولايات المتحدة، الأمر الذي من شأنه أن يؤجج المزيد من الصراعات وانعدام الاستقرار في مناطق مختلفة من العالم، وهذا الوضع سيكون من المحتم على روسيا التعامل معه.

فيما تظل أولوية تأمين روسيا لموقعها المهيمن في مجالها الجيوسياسي أولوية رئيسة وحيوية للدولة الروسية، يتم ذلك عبر تقوية الهياكل والمؤسسات الإقليمية “لتنسيق عمليات التكامل” بين الدول الواقعة في المجال، وهذا يعني أن روسيا حسمت أمورها بالتوجه شرقاً، فالتصور الجديد يعتبر أن تعميق التعاون “المفيد للطرفين” و”تطوير شراكة شاملة” تقوم على “التفاعل الاستراتيجي” مع الصين والهند والمؤسسات غير الغربية مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة البريكس. في هذا الإطار، قامت روسيا بترقية الهند إلى مستوى الشريك الاستراتيجي في محاولة روسية للتوازن مع الصين، وذلك لعدم رغبتها في لعب دور الشريك الأصغر للصين.

الخلاصة التي يمكن الخروج بها من تحليل الوثيقة هي أن روسيا شرعت بصياغة هويتها التي تريدها كقوة عظمى عبر إحياء قيم الدولة القومية الروسية ذات الهوية التاريخية المميزة، والحضور المهيمن في مجالها الجيوسياسي، والبروز كقطب مستقل يسعى مع الآخرين لنقل النظام الدولي من حالة سيطرة القطب الأوحد إلى التعددية القطبية.