العقوبات الاقتصادية الجائرة بين الواقع وعدم الشرعية
يقارع الشعب السوري منذ زهاء عقدٍ مضى كل مظاهر التعدّي والعدوان المتزامن مع عمليات إرهابية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، إرهاب ارتبط بارتكاب أبشع الجرائم التي لم تدرّس في كليات القانون، ولم يعرفها عتاة الإجرام، ممن امتهنوا القتل، وترويع الآمنين، ليس أقلها الذبح على مرأى من العالم، أو تقطيع الأوصال، أو أكل كبود البشر.. كل ذلك بدعمٍ ومباركة من دولٍ لطالما تشدّقت بالحرية، وحقوق الإنسان، فقدّمت إلى عصابات القتل والإجرام كل أنواع الدعم المادي والمعنوي.
في هذه الأيام حيث الشتاء القارس، وحيث أطفال العالم يحيون آمنين مع ذويهم بالقرب من المدافئ، فإن أطفال بلادنا، وكذلك الشيوخ والنساء والمرضى، لا يجدون أدنى مقوّمات الحياة، من دواء وعلاج وغذاء وكساء، ولا وقود أو كهرباء أو مياه، كل ذلك بسبب حصارٍ جائرٍ وظالم تفرضه دول العالم المتمدّن على شعب بأكمله من دون ذنبٍ أتاه، إرضاء لأجندات سياسية، وتشدقّاً بشعارات زائفة.
لقد وجدت الولايات المتحدة ضالتها فيما يسمّى “قانون قيصر” لاستخدامه ورقة سياسية تضغط بها على خصومها السياسيين، والميدان هو الدولة السورية كالمعتاد. وفي سياق متصل، كي يخفي بعض من زعمائها ما يتعرّضون إليه من مشكلات داخلية وخارجية، فضلاً عن البقاء قرب حقول النفط السورية المحتلة أطول فترة ممكنة، الحقول التي استولى عليها تنظيم “داعش” الإرهابي أولاً، وبدعم مباشر من الولايات المتحدة، لكنها وبعد اندحار هذا التنظيم الإرهابي لم تجد بدّاً سوى أن تضع يدها بشكل مباشر على تلك الحقول، فيكون عملها بالأصالة لا بالوكالة، ألم يقل ترامب: “النفط السوري بأيدينا نفعل به ما نشاء”؟
هل تكمن مصلحة الشعب السوري في دعم العدوان عليه، ودعم القوى الهمجية الإرهابية التي قتلت ودمرت وخربت كل معالم المدنية والحضارة في الدولة؟ كيف يمكن التصديق أن هناك من يحرص على حماية الشعب السوري بينما يتسبب كل يوم في مقتل الآلاف من السوريين الأبرياء، ويمنع دخول المساعدات الإنسانية إلى سورية؟
لقد شهدت بلادنا أحداثا جساما منذ عام 2011 وحتى تاريخه، واجهت فيها الدولة تحدياتٍ جمّة، وغير مسبوقة، بدأت بأعمال العنف والإرهاب، حتى طال التخريب كل مكان، وذهب الآلاف من خيرة الشباب السوري وهم في خضمّ الدفاع عن وطنهم، دمّرت الجامعات، والمدارس، والمشافي، وسائر البنى التحتية للدولة، ونهبت المصانع، والآثار، والمتاحف، ودمّرت المساكن، واختفى عدد كبير من الأشخاص، ولا يزال مصيرهم مجهولاً، وكانت التنظيمات الإرهابية لا تتوانى عن القتل الجماعي، ودفن المجني عليهم في مقابر جماعية، كل ذلك متزامن بدعم في المال، والسلاح، والعتاد، والمؤن، وتسهيل العبور، ودعم لوجستي، واستخباراتي، ومدّ الإرهابيين بأحدث الأسلحة، وبالخرائط، وصور الأقمار الصناعية، وما تطلّبه ذلك من انفاق مئات المليارات من الدولارات، دور نهضت به قوى الشر والعدوان من دول طالما ادّعت أنها تناهض الإرهاب، وتحاربه، وتسعى إلى الديمقراطية، والحرّية، وحقوق الإنسان، لكن الأزمة السورية عرّت أولئك جميعاً، وأثبتت أن الاستعمار هو الاستعمار، وإن تغيّر لونه، وأسلوبه، وأن مصالحه هي الأولى، ولو كان ثمن ذلك قتل الآخرين جميعاً، أو نفيهم، أو تشريدهم.
هل المجتمع الدولي، والمنظّمات الدولية الحكومية، وغير الحكومية، والتي تتجاوز الآلاف، غافلة عمّا يجري في بلادنا؟
لا أعتقد ذلك، فهذه المنظّمات التي نشأت في أغلب الأحيان على يد دول معيّنة، ما وجدت كي تدين هذه الدول، وإنما كي تكون وسيلة ضغط على دولٍ أخرى بما يسمح بتمرير الأجندات السياسية للدول التي أوجدتها، فعملها رهن بما تريده هذه الدول فحسب، بل إن ضعفها مستمد من ضعف القانون الدولي في مجمله، والذي صيغت قواعده على يد الدول العظمى التي لها الكلمة الأولى والأخيرة، فأي من الدول العظمى، وبخاصة دائمة العضوية في مجلس الأمن، قادرة بمفردها على تمرير أي قرار دولي يتماشى ومصالحها، أو تعطيل هذا القرار إن لم يكن لها مصلحة فيه، فالقانون الدولي في أضعف حالاته اليوم، ولا يكاد يتجاوز في قيمته ما لقواعد الأخلاق والمجاملات من قوة، أي إنه يفتقر إلى أي مؤيّد قانوني يمكن من خلاله حمل الكافة على الانصياع لما تأمر به هذه القواعد، أو تنهى. لا بل إن المنظّمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، ووكالاتها المتخصصة، أصبحت، كما هو شأن العواصم الأوربية، مرتعاً للقتلة والإرهابيين والخارجين على القانون، فأصبح الإرهاب محمياً دولياً بشكلٍ علني سافر، بعد كانت حمايته تتمّ في الخفاء، وذلك في سابقةٍ خطيرة هي الأولى من نوعها، سابقة سيدفع الجميع ثمنها في وقتٍ ما، لأن الإرهاب لا دين له، ولا وطن، ولا يعترف بالحدود الجغرافية، وما سمعنا عن إرهابي بات مصلحاً، وأخذ يزرع الورود بدلاً من رمي القنابل.
لكن ما سبق يجب ألّا يجعلنا نحيد عن فكرة التذكير أن ما تتعرّض له بلادنا اليوم يتنافى وأبسط الحقوق الدولية المتعارف عليها، ويناهض الاتفاقيات والأعراف الدولية، والمواثيق ذات الصلة، فالعقوبات الاقتصادية المفروضة على الجمهورية العربية السورية تمثّل قضية سياسية واقتصادية وقانونية وأخلاقية في آن معاً. وهي وسيلة سياسية يُراد منها فرض أجندات سياسية محددة، والتدخّل في الشؤون الداخلية للدولة، ومحاولة لفرض هيمنة من نوع جديد تعيد للإرهاب اعتباره بعد أن تمت هزيمته في أغلب الجغرافية السورية، وهذا يعني هزيمة من كان يدعم هذا الإرهاب، أيالدول ذاتها التي تفرض اليوم الحصار الجائر وغير المشروع على شعبنا.
وفيما يخصّ جانب عدم المشروعية في العقوبات القسرية أحادية الجانب المفروضة على بلادنا، حري التذكير أنه بمقتضى المادة (41) من ميثاق الأمم المتحدة، فإن مجلس الأمن الجهة المختصّة بتقرير ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا ترمي إلى استعمال القوة المسلحة، وله أن يدعو أعضاء الأمم المتحدة إلى تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها قطع العلاقات الاقتصادية بشكل كلّي، أو جزئي. ويحتاج مجلس الأمن إلى موافقة أغلب الدول الأعضاء فيه قبل إقرار العقوبة. وأي عقوبات اقتصادية تفرض خارج نطاق مجلس الأمن، كما هو شأن قانون “قيصر” مثلاً، إنما تعدّ عقوبات تفتقر إلى المستند القانوني، وبالتالي لا شرعية لها. وغالباً ما يتم في هذه العقوبات الخلط بين العقوبات التي تفرض على الدولة، ومؤسساتها العامة، مع تلك التي تفرض على الأفراد، وهو ما يزيد من معاناة الناس في أي دولة تفرض عليها مثل هذه العقوبات.
لقد أسهمت تلك العقوبات في زيادة معاناة المواطن السوري الذي عاني من ويلات الإرهاب، فارتفعت الأسعار بشكل كبير، وما زاد في ذلك هو التدخّل غير الشرعي للولايات المتحدة في سورية في أجزاء من المنطقة الشرقية، ووضع اليد على حقول النفط، ونهبها بشكل منتظم، عبر التعاون مع التنظيمات الإرهابية، والقوى الانفصالية.
وحتى في الحالة التي يفرض فيها مجلس الأمن العقوبات الاقتصادية وقت حدوث نزاعات مسلحة، لا بدّ من مراعاة قواعد القانون الدولي الإنساني، ومراعاة قواعد قانون حقوق الإنسان إذا تم فرضها في أوقات السلم. وأياً كانت الجهة التي تقوم بفرض العقوبات الاقتصادية، أي سواء مجلس الأمن، أو دولة ما (تطبيقاً لقرار مجلس الأمن)، فإنه يتعيّن مراعاة المقتضيات الإنسانية أخذاً في الحسبان القواعد المتعلّقة بحماية المدنيين والجماعات المعرّضة إلى الخطر بسبب النزاعات المسلحة.
وهكذا، وبمقتضى أحكام القانون الدولي، لا يجوز حرمان المدنيين من الحصول على الإمدادات الضرورية لحياتهم، فتجويعهم أمر محظور، ومن ثم لا يجوز فرض التطويق، أو الحصار، أو العقوبات الاقتصادية بقصد تجويع المدنيين. كما يحقّ للمدنيين الحصول على المساعدات الإنسانية من خلال الأحكام التي تطلب من الدول السماح بمرور مواد الإغاثة وفقاً لشروط معيّنة، والأحكام التي تسمح للوكالات الإنسانية بتقديم المساعدات الإنسانية غير المتحيّزة، بشرط موافقة الدولة المعنية، في حال كون المدنيين يعانون من صعوبات جمّة بسبب نقص الإمدادات اللازمة لحياتهم، ومثال ذلك المواد الغذائية، والإمدادات الطبية. ويجب على الدول السماح بحرية مرور المواد الغذائية الضرورية للأطفال، والنساء الحوامل، وحالات الأمومة، والسماح بحرية مرور الإمدادات الطبية، وما يلزم للعبادة، وذلك لعموم السكان المدنيين.
وقد تضمّن ما يسمّى “دليل سان ريمو” النصّ على هذه الالتزامات أيضاً، فقد جاء النصّ فيه على أنه “يتعيّن على القوة القائمة بالحصار السماح بمرور شحنات الإغاثة عبر الحصار”.
ووفقاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان، يعترف للإنسان بالحق في الحياة، والصحة، وبمستوىً لائق من المعيشة، بما في ذلك الغذاء، والمسكن، والملبس، والرعاية الطبية، والتحرر من الجوع. وتفرض هذه الالتزامات على الدول الالتزام بالعمل من أجل الوفاء بها.
وقد أوردت المادة (11) من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والثقافية بعضاً من الأحكام التي تتعلّق بالحقّ في الحياة، بحيث تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل إنسان في مستوى معيشة مقبول له، ولأسرته، بما في ذلك الغذاء الكافي، والملبس، والمسكن، وكذلك حقه في التحسين المستمر لظروف معيشته. ويتعيّن على الدول الأطراف اتخاذ الخطوات المناسبة لضمان إقرار هذا الحق.
يضاف إلى ما سبق أن المادة (36) من اتفاقية “إبادة الجنس” تحمي “الحقّ الجماعي في الحياة”، إذ تحظر التجويع المتعمّد لأي جماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية بقصد تدمير هذه الجماعة، ويبدو ذلك من خلال تعريف الاتفاقية لإبادة الجنس، وهذا النصّ يطبّق في أوقات الحرب والسلم.
وبالتدقيق فيما سبق، نجد أن العقوبات الاقتصادية الجائرة التي فرضت على سورية تفتقر إلى أدنى سند قانوني أو أخلاقي، ومردّ ذلك:
1- صدورها عن جهة غير مختصة: فقد سبق القول إن مجلس الأمن هو الجهة الوحيدة المختصة بفرض العقوبات الاقتصادية الدولية وفقاً لأحكام المادتين (39) و(41) من ميثاق الأمم المتحدة الذي يمثّل الإطار القانوني في استناد الأمم المتحدة ممثّلة بمجلس الأمن في فرض العقوبات الاقتصادية الدولية على دولة معيّنة. ووفقاً للمادة (39) فإن مجلس الأمن يقرر ما إذا كان هناك تهديداً للسلم والأمن الدوليين، أو وقوع عمل من أعمال العدوان، ويقدم توصيته بذلك، ويقرر ما يتعيّن القيام به من تدابير وفقاً لأحكام المادتين (41) و(42) من ميثاق الأمم المتحدة من أجل حفظ السلم والأمن الدوليين، أو إعادتهما إلى نصابهما.
وعليه، فإن أي دولة لا يمكنها أن تكون بديلاً لمجلس الأمن الدولي في فرض هذه العقوبات، فهذا يمثّل انتهاكاً خطيراً لميثاق الأمم المتحدة.
2- مخالفة العقوبات الاقتصادية أحادية الجانب المفروضة على سورية لقواعد القانون الدولي الإنساني، وقواعد قانون حقوق الإنسان: وهي القواعد التي يتعيّن حتى على مجلس الأمن التقيّد بها إذا ما فرض مثل هذه العقوبات. كما أن العقوبات الاقتصادية – حتى في حال فرضها من قبل مجلس الأمن – يجب ألّا تنزل بمستوى المعيشة لدى شريحة واسعة من الناس إلى ما دون مستوى الكفاف، كما لا يجوز أن تحرم الناس من الحقوق الإنسانية الأساسية في الحياة والبقاء. بما في ذلك الحق في الحياة، والصحة، والمستوى اللائق من المعيشة (الغذاء، والمسكن، والملبس، والرعاية الطبية…).
ما تقدّم يوضّح جانباً يسيراً من واقع العقوبات الاقتصادية المفروضة على بلادنا ظلماً وعدواناً، من دون مراعاة لأبسط مبادئ القانون الدولي، وحقوق الإنسان، من دول طالما تشدّقت بهذه القواعد كي تتخذها وسيلة ضغط على الدول وحكوماتها وشعوبها في كل مرةٍ ترغب فيه الدول المعتدية فرض أجنداتها السياسية، وفي كل مرةٍ تريد فيه إقهار الدول، وحملها على المضي في ركابها كي تكون خانعة، ذليلة، لا إرادة لها، ولا استقلال في قرارها السياسي، ولا سلطة لها على مواردها الاقتصادية. دول ظالمة شرّعت لنفسها حقّ العقاب الجماعي، ولا مشكلة لديها في أن يموت الآلاف، أو أن يجوعوا، أو يشردوا، فيما يتسابق الإعلام ليصوّر شرطياً أو عسكرياً يلف قطة تعاني من البرد، أو كلباً جائعاً، فيظهر هذا الشرطي أو العسكري وكأنه ملاك نزل من السماء، ولا تلبث وسائل إعلامنا في تصوير هذا المشهد، ولا نلبث بدورنا أن نبدي إعجابنا بذلك، متناسين ما سببته لنا حكومة هذا الشرطي من قتل، وجرح، وآلام.
خلاصة القول: إن علينا الإفادة من قدراتنا الذاتية ما أمكن ذلك، فلا ننتظر السماء كي تمطر ذهباً وفضة، ولا أن ننتظر من دول الاعتداء مراجعة سياساتها غير الإنسانية، فهذا مرام بعيد المنال، وليس من المتصوّر حدوثه في الأجل القريب. وعلينا أن نتذكّر أننا لسنا الدولة الأولى التي فرضت عليها مثل هذه العقوبات، ولن نكون الدولة الأخيرة، فقد سبق أن فرضت عقوبات مشابهة على كوبا، وإيران، وروسيا، وغيرها عديد من الدول، لكن أغلب هذه الدول باتت في وضع أفضل من الحالة التي كانت عليها عندما فرضت عليها هذه العقوبات. ولن يجدي نفعاً تحميل الحكومة وحدها المسؤولية، دون أن أعني بذلك نفي مسؤوليتها، وما يجب عليها القيام به، ولا أن يتحمّل الشعب وحده تبعة العقوبات الاقتصادية، فالمسؤولية مسؤولية الجميع، وذلك يتحقق بالعمل الجاد، والتفاني فيه، وحسن استغلال الموارد المتاحة، والاستمرار في مكافحة الإرهاب حتى القضاء عليه، واستثمار كل قطعة أرضٍ صالحة للزراعة، والعمل على إعادة الأموال المنهوبة، أو المهرّبة، ومراجعة السياسات الضريبية والمالية كي تكون أكثر واقعية وعدالة، وتعزيز متطلّبات الاصلاح السياسي والقضائي والإداري، ومكافحة الفساد، والاستغلال، والاحتكار، وتعزيز مبدأ المشروعية، وسيادة القانون، والأهم أن نكون رحماء فيما بيننا، وأن يكون شغلنا الشاغل، حكومة وشعباً، سيادة وطننا، واستقلال قراره.. تلك هي مقوّمات بسيطة كل ما تحتاج إليه شيء من الإرادة والعزم من أجل وضعها موضع التطبيق.
د. نجم الأحمد.. أستاذ القانون العام – جامعة دمشق