الفقر والحاجة أبرز الأسباب.. ازدياد جرائم القتل والفحشاء والسرقة والخطف والمعنيون ينفون وجود تساهل في تطبيق القوانين الرادعة
البعث الأسبوعية- ميس بركات
لو عدنا إلى بداية العام الجاري نجد أنها خيّبت الآمال والتوقعات التي ينتظرها السوريون ممن لم يستبشروا خيراً، خاصّة وأن الجرائم التي ارتكبت خلال الشهر الأول من هذا العام ليست بالقليلة، لا سيّما وأنها تجاوزت العشر جرائم تنوعت بين القتل والسرقة والخطف وصولاً إلى التخلّي عن الأطفال الرضّع وغيرها من الجرائم التي تركت آثاراً نفسية سيئة على المواطنين والمجتمع ككل الذي سيتحوّل حسب ما أكدّه أهل الخبرة إلى مجتمع جرائم ما لم يتم السيطرة والضبط والردع من الجهات المختصّة.
ولم يُنكر أصحاب الشأن وجود الجريمة وانتشارها قبل الحرب، لكنّ مع بوادر انتهاء الأزمة وازدياد الضغوط المعيشية وبالتالي النفسية على المواطنين أدت إلى تهتك بنية المجتمع وتصدعه والذي لمسناه في جرائم القتل ضمن العائلة الواحدة كقتل الأبناء لذويهم أو العكس دون أدنى شعور بالمسؤولية والخوف من العقاب، في المقابل أكد الطرف الآخر من الأخصائيين أن الضغط النفسي وتأثير الحرب يختلف من شخص لآخر في نوعه وشدته وقدرته على التحمل وكيفية انعكاس هذا الضغط على سلوك الشخص بالمنحى السلبي كالاتجاه للقتل والسرقة أو الإيجابي لخوض التحديات وإنجاز أمور هامة بالنسبة له.
خطر مجتمعي
الباحث الاجتماعي زياد ديوب أكد أن حوالي 70% من الجرائم التي حصلت خلال الأعوام الأخيرة سببها الدافع المادي وضيق الوضع المعيشي الذي جعل الخيارات تتلاشى شيئاً فشيئاً، خاصّة وأن الكثير من الأهالي لم يعودوا قادرين على توفير أدنى متطلبات الحياة لأطفالهم، وعلى الرغم من توّجه الكثير من الأزواج للعمل أكثر من عشر ساعات يومياً إلّا أن الواقع كان معاكساً دوماً لهم بارتفاع أسعار جميع السلع بشكل جنوني، ما أوقع البعض بالطريق الخطأ عندما قرروا إتباع الوسائل الأسهل والأسرع لتأمين المال وأساسيات الحياة من خلال ارتكاب الجرائم على اختلاف أشكالها لقتل الفقر والعوز على مبدأ” الغاية تبرر الوسيلة”، وتحدث ديوب عن زيادة الاضطرابات النفسية والأمراض العصبية خلال سنوات الحرب نتيجة الضغط المادي والتهجير والعنف والفقدان والخسارة وغيرها من الكوارث النفسية والجسدية والمادية التي أودت بالبعض إلى عيادات الأطباء النفسيين ، في المقابل اتجه البعض الآخر إلى عالم الجرائم نتيجة الصدمات والخسائر التي تعرضوا لها والتي دفعتهم لارتكاب جرائم قتل أو اعتداء أو سرقة كردّة فعل على ما تعرضوا له، وأكد الباحث الاجتماعي ازدياد الجرائم بأنواعها بشكل بات يهدد المجتمع ويشكل خطراً على جيل قادم ترعرع على وقوع جرائم شبه يومية، وهذا ما لم تدرك خطره حتى الآن وزارة الشؤون الاجتماعية و العمل، إذ لا زالت خطواتها خجولة في طريق ترميم آثار الحرب الاجتماعية.
جرائم الأغنياء
ومما لاشك فيه أن مسلسل الجرائم الذي عاد بقوّة خلال العامين الماضيين بسيناريوهات مختلفة وقصص مرعبة أيقظت في نفوس المواطنين الكثير من الخوف وأعادت بسرعة إلى ذاكرتهم شريط الحرب الطويل، فشعور الأمن والأمان الذي لطالما انتظروا الحصول عليه وكأنه بدأ يتلاشى مع تزايد عدد الجرائم التي أصبحت مادة “دسمة” على وسائل التواصل الاجتماعي بتفاصيلها المُخيفة تارة والمجهولة المصير”الخطف” تارة أخرى.
هنا يؤكد محمد كوسا “خبير اقتصادي” أن اختفاء الطبقة الوسطى من المجتمع السوري ساهم بشكل أو بآخر في ازدياد نسبة الجريمة لاسيّما وأن هذه الطبقة تشكل عامل “فلترة” أخلاقية وصمام أمان واطمئنان لباقي طبقات وفئات المجتمع، ورفض كوسا حصر الجريمة وأسباب حصولها بالفقر، فالغنى الشديد يؤدي أيضاً إلى ارتكاب الجرائم تحت دوافع عديدة أهمها السيطرة والتسلّط، لذا فإن الحلّ الأمثل في مجتمعنا حالياً يكمن في إعادة تواجد الطبقة الوسطى مع السعي قدر الإمكان لتحقيق استقرار اقتصادي ضمن الحدود الدنيا، إذ أن استقرار الوضع الاقتصاد عند الطبقات المتعلمة يؤدي إلى انعدام ارتكاب الجرائم إلّا في حالات نادرة “مرضية مثلاً”، كذلك يجد الخبير الاقتصادي أنه في حال كان الاقتصاد السائد”ريعي-غير منتج” فسيساعد على ارتكاب الجرائم كون هذا الاقتصاد لا يملك عوائد للمجتمع ككل بل لمجموعة من الأشخاص المعنيين ، بالتالي عدم العدالة بالتوزيع ما ينتج عنه استعداد باقي الجماعة لارتكاب الجرائم لاقتسام “الكعكة” مع هؤلاء الأشخاص المعنيين، ويؤكد كوسا أن لارتكاب الجرائم آثار اقتصادية على المجتمع ككل من ناحية خروج أشخاص تم صرف مبالغ مادية كبيرة عليهم منذ نشأتهم في التعليم والصحة والعمل وصولاً إلى السجن الأمر الذي يشكل خسارة للإنسان السوري بكل مهاراته وإمكانياته، ناهيك عن الخلل الاجتماعي الذي يؤدي حتماً إلى خلل اقتصادي، فأي بلد يعاني من ازدياد نسبة الجرائم فيه يبتعد عنه المستثمرون لعدم وجود بيئة آمنة للاستثمار ، إذ أن القوانين والأنظمة الداخلية موجودة لحماية الأشخاص وملكياتهم فإذا كانت الملكية غير محمية ستؤدي إلى خروج المستثمرين الوطنيين والأجانب إلى خارج البلد، ولفت كوسا إلى انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات والاتجار بها والتي ساهمت برفع معدل الجريمة خاصّة بين صفوف الشباب، فلا يمكن أن ننكر تفشي هذه الظاهرة الخطيرة في الجامعات والمدارس والأماكن العامة رغم الجهود التي تبذلها قوى الأمن لضبطها، لكنّ وللأسف فإن أكثر من 65% من الدعاوى المنظورة في القضاء هي دعاوى مخدرات، خاصّة مع انتقالنا من مرحلة الاتجار بها إلى الزراعة والترويج والتهريب.
تشديد القانون
في سؤالنا للمحامي عارف الشعال عن أسباب ازدياد الجريمة خلال الفترة الراهنة أكد أن مفرزات الحرب والفقر والفلتان الذي يعيش به المواطن اليوم أدت لازدياد الجرائم وتنوعها، نافياً وجود ضعف في القانون والعقوبات الموضوعة بحق جرائم القتل، لكن وجود تساهل في تطبيق القانون من قبل بعض الجهات أدى إلى عدم التفكير في عواقب الجرم، وتحدث الشعال عن تشدد القانون السوري في جرائم القتل التي قد تصل إلى الإعدام أو الحكم المؤبد، لكن السياسة القضائية العقابية تؤثر بشكل كبير على التطبيق، كالعفو الشامل على الكثير من الجرائم ومنها جرائم الجنايات تُبعد الخوف قليلاً من نفوس المجرمين، الأمر الذي يتطلب البحث عن أساليب أنجع لتجنب ازدياد الجرائم منها تحسين الوضع المعيشي خاصّة وأن الفقر والبحث عن المال هما أبرز أسباب الجرائم حالياً، وأكد الشعال ازدياد أنواع معيّنة من الجرائم خلال الحرب أهمها التزوير إذ نشطت دعاوى تزوير أحكام وعقارات وملكيات خلال سنوات الـ2013-2016، إضافة إلى جرائم الخطف وطلب الفدية والتي بدأت تنخفض خلال العامين الأخيرين.
أزمة أخلاقية
القاضي نبيل شريباتي “رئيس النيابة العامة بدمشق” تحدث مطولاً عن التراجع الكبير والخطير في التربية الأخلاقية خلال السنوات الأخيرة ، لتظهر شرائح واسعة لا تأبه للجريمة ولا تبالي بفعل القبائح، فالأزمة التي نمر بها أثرت على منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية ، خاصّة مع انتشار الفقر والجهل لدى مرتكبي الجرائم فضلاً عن الاضطرابات النفسية والعصبية لدى بعض المواطنين نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية في البلاد، ولم يُخف شريباتي لجوء بعض الأسر إلى طرق استغلالية وخطيرة لتأمين أساسيات العيش والتي يترتب عليها ظواهر خطيرة مثل جرائم القتل وعمالة الأطفال والزواج المبكر، فالوضع الاقتصادي المتردي شكل حالة ضغط كبيرة على الناس تدفعهم للسرقة وأعمال الخطف وغيرها من الجرائم التي قد تصل إلى القتل والدعارة، وعلى الرغم من أن الأزمة التي تعرضنا لها باتت في نهايتها إلّا أنها غيّرت الكثير من القيم والمبادئ التي كانت تعزز الترابط الاجتماعي وأدت إلى تفكك الروابط الاجتماعية .
قوانين جديدة
رئيس النيابة العامة لفت إلى وجود الكثير من القوانين الخاصة بالإضافة إلى القوانين العامة المختصة بمكافحة مختلف أشكال الجريمة حيث صدر العديد من القوانين مؤخرا تماشياً مع أنواع الجرائم الجديدة التي بدأت بالانتشار والظهور خلال الأعوام السابقة سواء منها الجرائم المالية أو التموينية أو المعلوماتية، والجهات المسؤولة اليوم بصدد العمل على تعديل نصوص العديد من القوانين الحالية، ونفى شريباتي ما يُشاع عن تساهل في تطبيق القوانين وإنما هناك العديد من أنواع الجرائم التي يتم فيها منح أسباب مخففة نظرا لظروف الجريمة لاسّيما عند تصالح أطراف النزاع فيما بينهم، أما فيما يتعلق بقوانين العفو ومدى تأثيرها على الجرائم أشار القاضي شريباتي إلى أن السلطة التشريعية هي من تصدر العفو أو ممن يمارس صلاحياتها وذلك بهدف إلغاء بعض الجرائم ومحو ما كان يترتب عليها من نتائج فتصبح كأنها لم ترتكب، ويعتبر العفو العام تنازل من المجتمع بواسطة ممثليه في البرلمان عن حقه في عقاب المتهمين بارتكاب جرائم معينة، وكأن المجتمع يود إسدال ستارة النسيان عن بعض الجرائم لأسباب هامة، وقد يصدر العفو بشكل جزئي كأن ينصّ عن تخفيض العقوبة جزئيا أو يصدر مشروطاً ومعلقاً على شرط كأن لا يعتبر نافذاً دون أن يسقط الشاكي حقه الشخصي أو مشروطاً بالإصابة بمرض عضال.
في ازدياد
ومما لا شك فيه أن الجرائم ليست وليدة الأزمة، لكنّ مخلفاتها ساعدت بانتشارها وتفاقمها بشكل مخيف، ناهيك عن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت الجرائم الحاصلة في أي محافظة تنتشر كالنار في الهشيم لتصل إلى جميع المواطنين، وهذا ما وصفه القاضي شريباتي بالتهويل والتضخيم الذي تقوم به هذه الوسائل حيال بعض القضايا كما جرى مع قضية مقتل الشابة آيات الرفاعي والتي أصدر فيها المواطنون حكم الإعدام على زوجها ووالده فيسبوكياً، في حين هناك الكثير من الجرائم كانت أشنع من هذه الجريمة ولم يتم الحديث عنها، مؤكداً أن الرأي العام لا يؤثر على قرار الحكم الصادر عن المحكمة والتي يُبنى على معطيات وأدلة وبراهين ملموسة، وأكد رئيس النيابة العامة ازدياد الجرائم الحاصلة خلال سنوات الأزمة مسنداً في حديثه إلى عدد الأشخاص الذين تم تقديمهم إلى النيابة العامة في دمشق عام 2010 والبالغ عددهم 14348 شخصاً، في حين وصل عددهم عام 2011 إلى 16183 شخص، ليتزايد خلال عام 2019 إلى 23229 ، و21335 في 2020.
مخزون أخلاقي
وحول طبيعة الجرائم التي ازدادت في الأعوام السابقة تحدث شريباتي عن ازدياد جرائم القتل والفحشاء والسرقة ، إذ وصلت نسبة جرائم الفحشاء إلى 20% أما السرقة فتزايدت إلى حدود الـ40%، إضافة إلى تفاقم جرائم الاتجار بالأشخاص والمخدرات، حيث لم تعد سورية دولة عبور فقط بل زراعة وتجارة وتهريب المخدرات من قبل أشخاص خارجيين وداخليين الأمر الذي يفرض ضبط الحدود بشكل أكبر، والسبب برأيه يكمن في شحّ المخزون الاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي والذي كان موجود قبل وخلال سنوات الأزمة، لكنه مع ازدياد سنواتها بدأ هذا المخزون بالنفاذ وصولاً إلى هذه الأعوام التي ازداد فيها جرائم القتل والسرقة بقصد الحول على المال نظراً للظروف المعيشية السيئة، لافتاً إلى أن حصار الكثير من الأهالي مع المجموعات الإرهابية المسلحة لأعوام طويلة تحت ضغط معين أدى إلى نشوء جيل تربى على فكر معيّن بدأنا نلمس نتائجه في بعض الجرائم التي يقوم بها الأطفال، ما يخلق حاجة ماسة لدفع الجهات المعنية وخاصة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لإيجاد برامج لإعادة تهيئة هذه الشرائح في المجتمع بعيداً عن الفكر الإجرامي الذي عاشوا فيه لسنوات طويلة.
تقليد للغرب
الدكتور عبد الكريم الاسماعيل “كلية التربية” ابتعد في شرحه لأسباب الجريمة الحاصلة في الآونة الأخيرة في سورية عن الوضع الاقتصادي والفقر ليتحدث عن حالة الانفتاح على المجتمعات الأخرى في جميع المجالات ومحاولة تقليدها بدءاً من الطعام وصولاً للتفنن بعالم الجرائم وأفلام الأكشن التي تستهوي فئة الرجال، خاصّة وأن نسبة ارتكاب الجرائم عند الرجال احتلت المرتبة الأولى في بلدنا تليها الجرائم عند النساء ومن ثم الأطفال، ولم ينكر الاسماعيل وجود الجرائم منذ الأزل في العالم أجمع، لكنّ البيئة الاجتماعية هي من يعزز انتشارها أو انحسارها، مشيراً إلى أن الأزمة التي عانى منها مجتمعنا شكلت بيئة وأرضية خصبة لانتشار الجرائم، إضافة إلى جهل الكثير من الأشخاص بالأنظمة وبعواقب الجريمة بالتالي الإقدام عليها بل وتكرارها نتيجة لذلك الجهل، كما أن نوعية الثقافة لها دور أيضاً في التأثير الإيجابي أو السلبي في ارتكاب الجريمة فإذا كانت ثقافة الفرد ذات طابع إجرامي نتيجة التأثر بالفكر الإجرامي فإنه سيندفع لارتكاب الجريمة عدة مرات تحت تأثير هذه الثقافة، لافتاً إلى أن انتشار الجرائم يتنافى مع القواعد الصحيحة لبناء مجتمع صحيح خاصّة وأنه سيؤدي إلى تراجع اقتصاده وانتشار الخوف وانعدام صمام الأمان له وصولاً إلى انهياره.
خلاصة القول.. لا يوجد مجتمع من دون جرائم فهي موجودة منذ الأزل، ومع تزايدها في مجتمعنا لا بد من البحث عن حلول للتخفيف منها والتي تبدأ من المجتمع ومؤسساته عبر وضع خطط وبرامج شاملة من شأنها القضاء على العوامل المؤدية إلى الإجرام أو الظروف المهيأة له، من بينها الوضع الاقتصادي وضعف الوازع الديني والتفكك الأسري والجهل بالقوانين والأنظمة بالإضافة إلى الجرائم التي ترتكب بداعي الشرف فضلا عن الأمراض النفسية.