مجلة البعث الأسبوعية

قمة العشرين بـ “ممرها الاقتصادي”.. قطع وتطويق لمشروع “الحزام والطريق” 

البعث الأسبوعية – قسيم دحدل

طالما كانت الأزمات العالمية الكبرى هي السبب الفاعل في إنتاج أقطاب سياسية واقتصادية مختلفة، فالحروب العالمية الكبرى، بدءا من الحربين الأولى والثانية، قادت إلى تشكل الأمم المتحدة، والجامعة العربية، ومؤسسات دولية مختلفة، ثم قادت الأزمات التي جاءت نتيجة أزمة التضخم العالمية منتصف القرن الماضي مع حدة الاستقطاب التي أنتجتها الحرب الباردة، إلى نشأة مجموعة الـ 77، وبعدها قادت التقلبات في أسعار النفط والتحولات التي تسببت فيها الولايات المتحدة عندما انتهى عصر قاعدة الذهب، إلى نشأة مجموعة الـ 24 التابعة لمجموعة الـ 77، ثم جاءت التحديات الاقتصادية بعد الاتحاد السوفياتي لتعيد نشأة الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول الصناعية الكبرى الثمانية التي ضمت روسيا، ثم انتهت لتصبح سبع دول فقط مع استبعاد روسيا، وأعادت الأزمة المالية العالمية في 2008 صياغة مجموعة الدول العشرين ودورها العالمي، وجاءت تحديات الصراع الصيني – الأمريكي، بمجموعة الـ “بريكس”.

تغليب للصراع!

في مقابل ما تقدم، يمكننا القول، وبعيدا عن نهج الاستقطاب والتحييد، إن التعاون والتفاهم وتقاطع المصالح، عناصر تشكل في النهاية أساسا للعلاقات الدولية كلها، وتدعم تلقائيا مسارات التنمية، كما أنها تعمل على التقليل من الاختلافات أو الخلافات التي قد تظهر بين هذا الطرف أو ذاك.. إنها عملية دولية مشتركة، تشترك فيها جهات محورية مؤثرة عالميا.

لكن على ما يبدو أن لغة التعاون والتكامل قد سقطت مجددا، نتيجة لتغليب الصراع على الممرات والمحاور الاقتصادية والتجارية العالمية، حيث تبدَّى هذا الصراع في التصعيد واحتدام المنافسة، ووصل إلى حد ” كسر العظم”، ما بين الولايات المتحدة وأوربا والغرب عموما والكيان الصهيوني من جهة، وبين الصين وروسيا وإيران، من جهة أخرى.. صراع بدأت ملامحه تتمثل بكل وضوح بعدما خلصت قمة “مجموعة العشرين”، إلى التوقيع على مذكرة تفاهم بشأن مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، برعاية أمريكية، والذي اعتبر بمثابة الرد على المشروع الصيني “الحزام والطريق” أو على الأصح تطويقا له، ما دفع الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى عدم حضور القمة.

مفاجأة!

ولعل المفاجأة التي حملها مشروع “الممر الاقتصادي”، المشار إليه، تكمن في دعم وتبني دول عربية له كانت عملت من أجله، رغم أنه يُحيد دولا عربية محورية كمصر (قناة السويس) والعراق وسورية، لصالح الكيان الصهيوني الذي سيكون بوابة هذا الممر إلى الغرب عبر ميناء حيفا، ما يعني أن الأوضاع ما بعد هذا المشروع لن تشبه ما قبلها من كل الزوايا والاتجاهات، بما في ذلك تأثر العلاقات الدولية وتضاربها، وإحداث اصطفافات مصيرية، بعدما غلَّب الغرب بزعامة أمريكا منطق الصراع وإثارة الحروب وفرض العقوبات على منطق التفاهم والتعاون على قاعدة تبادل المصالح وتكاملها واحترام سيادة الدول وتطلعاتها.

الملفت في الموضوع أن مؤيدي الممر الاقتصادي، وخاصة من بعض العرب، ينظرون للأمر من زاويتهم ومصالحهم الخاصة، متناسين ما يعني أن يكون الكيان الغاصب “إسرائيل”، سياسياً واقتصاديا، بوابةً ومدخلاً لهذا الممر، شرقا وغربا!!

 

ماهية المشروع

وبالعودة لماهية مشروع الممر الاقتصادي الجديد والذي سمي أطلق عليه (IMEC)، اختصاراً للاسم الكامل وهو (the India-Middle East-Europe Economic Corridor)، فإنه يضم رسمياً الدول الموقعة على مذكرة التفاهم، وهي السعودية والولايات المتحدة والهند والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي. ولم يتم تقديم أي التزامات مالية، لكن الأطراف اتفقت على وضع “خطة عمل” تفصيلية خلال ستين يوماً.

ويتكون المشروع من ممرين منفصلين، أحدهما شرقي بحري سيمتد من موانئ الهند إلى الإمارات عبر بحر العرب، وممر بري شمالي سيعبر السعودية بالسكك الحديدية وصولا إلى البحر المتوسط عبر الكيان الإسرائيلي ومنه إلى أوروبا.

وسيسهم المشروع بتطوير وربط شبكات ضخمة من البنى التحتية تشمل خطوط السكك الحديدية وربط الموانئ لتسريع مرور السلع والخدمات، ومد خطوط وأنابيب لنقل الكهرباء والهيدروجين لتعزيز أمن إمدادات الطاقة العالمي، بجانب كابلات لنقل البيانات.

وتنبع أهمية الممر- برأي مؤسسيه – من أنه سيجعل من الهند مركزاً عالمياً للإنتاج المنخفض التكلفة منافساً للصين، وسيربطها بسلاسل الإمداد الأوروبية والعالمية، كما أنه سيجعل السعودية والخليج جزءاً أساسياً من سلاسل الإمداد العالمية. وسيعزز المشروع موقع السعودية كمصدر أساسي لأمن الطاقة في أوروبا والهند ومصدرا عالميا أساسيا للطاقة النظيفة.

وعلى الصعيد التجاري، يحقق الممر وفراً كبيراً في الوقت والتكاليف، إذ أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان ديرلاين أن هذا الممر سيجعل التجارة بين الهند وأوروبا أسرع بنسبة 40%.

ضرورة “الحرير”

بناء عليه، فإن تنفيذ طريق الحرير الجديد الذي يربط الصين بدول العالم من خلال وجود بوابة على البحر المتوسط أصبح اليوم ضرورة للصين للدفاع عن تجارتها قبل البدء بتنفيذ الطريق البديل. ولعل كلمة الرئيس الأميركي جو بايدن التي ألقاها خلال الإعلان عن مشروع “الممر الاقتصادي” حيث قال: إنه “خطوة هائلة إلى الأمام وسيغير قواعد اللعبة” من الهند إلى أوروبا مرورا بالشرق الأوسط، عبرت عن قرار من واشنطن بتدارك نقص حاد تعاني منه طبيعة علاقاتها مع دول آسيا وأفريقيا.

فبموازة الإعلان المذكور، تحدث بايدن عن استثمارات في شبكات لسكك حديدية في أفريقيا تربط بين أنغولا وزامبيا وصولا إلى المحيط الهندي.

المفارقة أن المشروع الجديد (الممر الاقتصادي)، برأي مؤسسيه، لا يهدف إلى تطويق مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، بل يهدف في مكان إلى التكامل معها عبر خلق مروحة خيارات أمام دول العالم لرفع مستوى التعاون الاقتصادي فيما بينها، وتفادي الوقوع في فخ الاعتماد على قطب دولي واحد، أو تكتل دولي وحيد. وبرأيهم أن مبادرة “الحزام والطريق” ترتكز إلى رافعة وحيدة هي الصين، وتحاول خلق شبكة تواصل عالمية مركزها ومنبعها الصين نفسها.

Qassim1965gmail.com