في الرد على (استفزازات) الكيان الصهيوني
د.عبد اللطيف عمران
تبرز في هذا العنوان إشكاليتان تكادان تغيبان عن الرواية المعاصرة للأحداث الدامية في هذه المنطقة من العالم، الأولى تتمثل في بدء تلاشي عبارة (الكيان الصهيوني) في الميديا وفي الكتب لتحلَّ محلها بأريحية وقحة كلمة (إسرائيل)، ولهذا أسباب معروفة ومؤسفة.
كما تبرز فيه الإشكالية الثانية وهي (الاستفزازات) إذ ينصرف ذهن البعض إلى أنها تنحصر فقط بالغارات الجويّة، أو بالقصف الصاروخي لعدة مواقع في الأراضي العربية السورية، أو الاغتيال والأسر والتهجير والاستيطان في الأراضي العربية الفلسطينية. في وقت تتضح فيه أنواع أخرى جديدة عديدة وخطيرة لهذه الاستفزازات تتجاوز مخاطرها الأنماط التقليدية التي رافقت تنفيذ المشروع الصهيوني في الأراضي العربية المحتلة في عدة أقطار عربية.
إننا اليوم أمام استفزازات مستدامة متجددة لا تقف عند المجال العسكري، فبعد اتفاقات السلام الثلاث في أواخر القرن الماضي (كمب ديفيد – أوسلو – وادي عربة) وما يتبعها اليوم من اتفاقات مع بعض النظام الرسمي العربي، بعدها يستمر المشروع الصهيوني بتعزيز التحولات الكبرى والخطيرة في طبيعته بأساليب غير تقليدية، منها الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، إضافة إلى السياسي والاستخباراتي الخبيث والمزعزع لاستقرار وأمن المجتمعات والدول العربية من خلال العمل على (تفكيك الجغرافيا السياسية العربية، وكذلك الهوية والوعي والانتماء العربي، إضافة إلى التوظيف الماكر والمؤذي جداً لتقنيات حروب الجيل الرابع).
هذه الاستفزازات بمخاطرها التقليدية والجديدة المستمرة، يخطئ من يظن أنها لا تلقى ردوداً مستمرة، لكنها قد لا تكون بالشكل الذي يسعى إليه الأعداء، بل بشكل آخر لا يقل قسوة وتحدّياً وإحباطاً للمشروع الصهيوني الذي يستعجل بعضنا فيراه يمضي قدماً نحو التطور والتحقق، ولا سيما جرّاء عوامل الضعف التي أحاطت بالمشروع القومي العربي.
صحيح هناك إلى اليوم غير قليل من التطورات التي حققها الصهاينة، وهناك أبحاث توضّح كيف تمكّنوا مثلاً من حصد نتائج أحداث 11 أيلول 2001، ووقائع ما يسمّى بـ (الربيع العربي) على أنها (بيرل هاربر) الولايات المتحدة الجديد صهيونياً، وكيف ولد عام 1967 من جديد الكيان الصهيوني إذ لم تعد عاصمته تل أبيب فقط بل نيويورك أيضاً، إذ لم يبقَ هدف الصهيونية تأسيس دولة في فلسطين فقط، بل استغلال النظام العالمي الجديد لتحقيق (ما فوق الصهيونية) وأن نتائج الانقسام الإسلامي الإسلامي، والعربي العربي لم تعد تجعل القضية الفلسطينية قضية مركزية لا للعرب ولا للمسلمين، فقد (بدأت نهاية الصراع العربي الإسرائيلي بشكله المألوف)، وأن (المحافظون الجدد الأمريكيون هم إسرائيليون مشفّرون)، وقد بيّن ليو شتراوس واضع الأسس الفلسفية لسياسة المحافظين الجدد منذ عام 1962 جواب سؤاله الخطير: لماذا نظل يهوداً… وكثير من هذا القبيل الذي لم تتحطم معه إرادة التحدي والصمود العروبية، ولا عند المسلمين والمسيحيين الأحرار في غير هذه المنطقة من العالم. بل دفع إلى تطور أكثر، وفعل أكبر لمقاومة هذا المشروع فعلاً وثقافة.
فمقابل هذا لم ولن تنسى شعوب العالم أثر شخصية شايلوك بطل مسرحية شكسبير المنشورة عام 1600م، وصولاً إلى كتابات إسرائيل شاحاك ومعه بعض جماعة (المؤرخون الجدد) في نسف الأساطير المؤسسة للكيان الصهيوني كعقيدة قومية عنصرية معادية لليهودية كدين، وإلى آراء وأبحاث كثيرة في شتى بقاع العالم منها مثلاً الحديث المهم جداً للسيدة كريستينا دي كيرشنر رئيسة جمهورية الأرجنتين عام 2014 في الأمم المتحدة حين جعلت (إسرائيل) وداعش والقاعدة والولايات المتحدة في منهج واحد وصولاً إلى قناعات دولية واسعة بأوجه الشبه بين المحرقة والنكبة… وكثير في هذا السياق مما يبيّن للرأي العام العالمي أن استفزازات الكيان الصهوني المستمرة هي جرائم مدانة بحق الشعوب وبحق القانون الدولي والمجتمع الدولي.
ولا شك في أننا أمام أجيال سترى في هذه الاستفزازات التي ترافق الاستهتار بالشرعية الدولية وبالأمم المتحدة، وبالنزوع العربي نحو (السلام) دليلاً واضحاً أن لا سلام مجدياً يمكن أن يتحقق مع هذا الكيان فترفض السلام معه، وأن المجدي فقط يكمن في مقاومة هذا المشروع وهزيمته من أساسه، أجيال سترى حقائق تاريخية جاذبة في قول القائد الأسد: كلفة المقاومة أقل من كلفة الاستسلام.