ثقافةصحيفة البعث

حطّاب الأوهام

يَعِدُ بأن تصبح ثرياً بين عشية وضحاها، ويقيس حجم النجاح بكمّ المال وبالمنزل الكبير والسيارة الباهظة الثمن وبأمور مادية أخرى، أما النبل والنزاهة والصدق فلم تعد تلك الكلمات قيماً أو ذات معنى، وبات فن التجارة بديلاً عن الكدِّ والشجاعة، كلّ اعتماده على الاحتيال والقدرة على بيع سلعة بصرف النظر عن الجدوى وانعدامها، والغاية هي كسب الأرباح بأية طريقة.

هو “الحلم الأمريكي” الذي أُسِّسَ على معتقد أن “كلّ الناس خلقوا متساوين، ويولدون بحقوق لا يجوز التصرف بها- حق الحياة والحرية والسعي وراء السعادة”، وعلى إيمان بأن كل شيء في أمريكا مباحٌ لجميع الناس، بصرف النظر عن المولد أو الثراء.

ودفع بعضهم إلى الظن بأن المشقة والموت الشنيع سمتان من سمات الحياة في بلد من بلدان العالم الثالث، وبأنهما بعيدان كل البعد عن أمريكا، أرض الوفرة والثراء، لكن مُثلهم الزائفة تخفي باطناً مليئاً بالفساد بأشكاله كافة، وهو ما كشفه المسرحي الأمريكي آرثر ميلر في مسرحية “موت بائع متجول”، متحدياً بذلك الحلم الأمريكي بحدّ ذاته، إذ يمثّل بطل القصة ويللي لومان كل أمريكي حقير المنشأ، ومأساته هي مأساة كل أمريكي. ومن ثمَّ تقوّض المسرحية أسس الحلم الأمريكي كونها مأساة رجل ظلمه المجتمع. وعلى الرغم من إيمانه بالأسطورة الأمريكية، ينتهي حلمه بكابوس. وعليه، تتحدّى المسرحية كذلك المفاهيم الرأسمالية الأمريكية الجديدة، وهو أمر نستخلصه مما قاله آرثر ميلر عن مأساة ويللي: “أنهى ويللي حياته، أو باعها، ليبرر هدْره لها”.

وتُعْلِمنا المسرحية أن ظروفاً كالتي مرّ ويللي بها قد تودي ببعض “البشر” إلى التخلي عن إنسانيتهم وتمسي أرواحهم جوفاء، فيرتدون أقنعة تخفي خلفها قسمات الخداع والمكر وحب المال، ويصبح النجاح المادي هو الحقيقة الوحيدة والهدف الوحيد. وعلى هذا المنوال يمثل ويللي كل مسكين في أمريكا. ويعكس سقوطه ووفاته الانهيار التام لمفهوم فن التجارة، الذي يمثل جزءاً لا يتجزأ من البنية الأمريكية.

توهم ويللي أن الظهور بمظهر “المحبوب” هو الحلّ لكل مشكلات الحياة، دون أن يدرك أن العصر الذي يعيش فيه وحسن المظهر والمعشر من سفاسف الأمور في نظر المجتمع، وما يهمّ هو الثروة وحسب، فبها بمقدورك شراء ما أردت حتى الإنسان، وكل العلاقات تافهة أمام سطوة الدولار الجبارة!.

بمرور الوقت يتلقى ويللي صدمة كبيرة حين يمسي عاجزاً عن التنقل لمسافات بعيدة وبحاجة إلى قدر كبير من الرعاية والاهتمام، فيطلب من صاحب العمل الشاب إعفاءه من هذا العبء المضني وتكليفه بوظيفة مريحة، لكن رجل الأعمال الرأسمالي يرى أنه غير ملزم بأي التزام أخلاقي أو قانوني، وبات ويللي في نظره غير مجدٍ تجارياً، مثله كمثل قشور الفول، لذلك نسمع الرأسمالي يقول: “لا حاجة لي بك فضوء قنديلك قد انطفأ”.

في الواقع، أنذر ميلر في “موت بائع متجول” المجتمعَ الأمريكي من دوامة الوهم التي تجذبه نحو القاع، مبيناً أن كل الأمريكيين مَهُوْسون بفكرة النجاح بأي وسيلة، وكلٌّ يريد أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، لكن أحدَهم عندما يعلق بشراك الفشل يصابُ بالإحباط ويذعن للاستسلام، وما انتحار ويللي إلا صافرة تُنذر من هذه القيم الحديثة. وربما يجدر بنا هنا استحضار ما قاله المسرحي الأمريكي يوجين أونيل عن قصور الحلم الأمريكي: “أنا من المؤمنين بالنظرية القائلة بأن الولايات المتحدة تمثل أكبر فشل في سياستها، بدلاً من أن تصبح أنجح دولة في العالم”.

في الختام يمكننا القول إن ميلر حاول في “موت بائع متجول” تسليط الضوء على قصور الحلم الأمريكي، فيُعلِمنا في ثنايا سطورها أن الإنسان ليس آلة، وإنما كتلة من المشاعر والأحاسيس، لذا فإن حصر كل القيم بجمع الثروة هو أمر خاطئ، ولخّص لنا الوضع برمته في عبارة تلفّظ بها بيف لومان، ابن ويللي الأكبر، تعقيباً على وفاة والده: “سعى وراء حلم خاطئ، فما ربحت تجارته”.

علاء العطار