الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

مناطق الينابيع والصّفاء

عبد الكريم النّاعم 

قلت له، ذات زمن، وهو يسكب فنجان القهوة العربيّة من (دَلَّة) مُتْقنة الصّنع:

“هل لاحظتَ أنّ عدداً من الكتّاب المُبدعين يسافرون، في كتاباتهم، إلى الينابيع العذبة، الصّافية، وإلى الغابات البكر، أو إلى صفاء البوادي، وعمق الصحارى؟”.

وضع الدَّلَّة من يده، وجلس يتابع الفكرة المُلْتَقَطة، فعلمت أنّه يتقبّلها، تابعَها فقال:

“من البدهيّات المعروفة بالتّجربة، أنّ الإنسان حين ينام وهو عطشان، فإنّ أحلامه تدور حول الماء، فيرى نفسه يشرب الماء، أو يهمّ، وليست أحلام اليقظة بعيدة عن هذا، فهي حالة تّعويضيّة، تنفيسيّة لاحتقان داخلي. وفي الكتابة الكثير من عوالم الأحلام، كالبحث عن النظيف في أزمنة القذارات، وعن الصّافي في أزمنة العَكَر، أو من أخذ حجارة عماراتهم،.. فمن أجل أن يشيدوا منتجعات، ومدناً،.. تَتَنَفّس فيها بثقة، واطمئنان، تلك الأرواح التي أثقلها ما يفرزه الواقع من مزعجات، ومنغّصات..”.

قاطعته قائلاً: “اسمح لي قبل أن تضيع الفكرة مني، لقد ذكرت “أزمنة القذارات”، هل ترى أنّ ثمّة “أزمنة نظيفة”؟

رشف رشفة من قهوته، وقال: “نعم ثمّة أزمنة نظيفة، قياساً بالأزمنة الشديدة القذارة، ولست أعني أنّ ثمّة أزمنة عامّة، شملت البشريّة، وكانت نظيفة في الحدود الدّنيا ممّا تتطلّبه الكرامة البشريّة، فالإنسان في رقيّ مدنيّته ما زال يبحث، ويعمل من أجل هذا، نعم ثمّة أزمنة اقتربت من حدود النّظافة التي تقصدها..”.

قاطعته: “هل تستطيع أن تعطيني مثالاً؟”.

قال: “كلّ المقاطع الزمنيّة التي احترمت الإنسان كقيمة عليا، وحاربت الاستغلال، والنّهب،.. وجوع الأكثريّة، ليتخم الأقلّون، هي أزمنة نظيفة..”.

قاطعته: “هل تجد في تاريخنا العربي زمناً يحمل تلك التّسمية؟”.

قال: “نعم، هي أزمنة قصيرة، ومثولها القصير دليل على أنّها يمكن أن تكون، ومن أجل ذلك يعمل الشرفاء في كلّ وقت، وهذا متساوق مع روح “التقدّم” التي دعا إليها أحرار العالم عبر التاريخ البشري في كلّ البقاع، ولو فتّشتَ، ودقّقتَ لوجدتَ أنْ ما من بُقعة من بقاع الأرض إلاّ وكان فيها مَن يدعو لما هو أفضل، وأكثر تحقيقاً لإنسانيّة الإنسان”.

قاطعتُه: “هل كانت مطالب التقدّم واحدة عبر تلك الأزمنة؟”.

قال: “قد تختلف مفردات هذه المطالب بحسب الحاجة، وبحسب تطوّر الأزمنة، ولكنّها تظلّ مجموعة فيما “ينفع الناس”، ومهما بحثت في كتب المفكرين والفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين فلن تجدها تتعدّى هذا الطلب، أعطني ما ينفع الناس وسأكون من جنودك حين تقتضي المعركة ذلك”.

aaalnaem@gmail.com