الارستقراطية الفكرية والروحية.. وداعاً
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
لايستطيع المرء عندما تطالعه صورة للأديب وليد إخلاصي أن يتجاهل تلك الحالة الارستقراطية التي ترتسم على ملامح وجهه حيث ضحكته التي تشع من عينيه قبل شفتيه كانت تأسر الناظر إليها وذلك “البايب” الذي كان رفيقه الدائم حتى أصبح يشكل جزءاً من مفردات شخصيته، لكن الحديث مع الأديب الراحل وليد إخلاصي الذي غادرنا منذ أيام يترجم بشكل فعلي مايقرأه المرء في ملامحه بحالة أرستقراطية فكرية وإنسانية راقية حيث روحه مشبعة بالحياة الغنية والمتواضعة بآن معاً، ففي عام 2001 اتصلت بالأديب وليد إخلاصي أدعوه للكتابة في مجلة “الحج والعمرة” السعودية فأجابني بعد أن عرفته على نفسي بشيء من الدعابة: “صحفية في جريدة البعث وتدعينني للكتابة في مجلة إسلامية كيف توفقين بين الحالتين”؟ فأجبته أيضاً بشيء من الدعابة أن الفكر لايتجزأ في الكتابة، والثقافة هي الناظم الأول للكتابة مما يعني شموليتها لكل مجالات الحياة، فأكد على كلامي وشكرني على دعوتي له له للكتابة في المجلة وكان التزامه بإرسال المقال قبل وقته تأكيد على حبه للكتابة وعشقه للحبر الذي يلون الصفحات بأفكار ورؤى خلدته أديباً من الطراز الرفيع، وهو الذي جاء من عالم الهندسة الزراعية إلى عالم الأدب ليهندس بوجدانه وروحه إبداعات أدبية تنظمها مفردات الحياة بما تحمله من حقائق ومتناقضات، فكان رصيده الكثير من الأعمال الأدبية في مجالات القصة والرواية والمسرحية والدراسة والمقال والزاوية الصحفية والشعر، وتمت ترجمة أدبه إلى لغات عدة منها الإنكليزية والفرنسية والألمانية والهولندية والأرمينية والروسية واليوغسلافية والبولونية.
لم يكن الأديب إخلاصي يحب الانتماء لأي حزب، لأن انتماءه لسورية الأم كان خياره الذي اختصر كل الفئات والأحزاب، وما كان يميز شخصيته الإنسانية والأدبية هذا الارتباط الوثيق بين ثقافته العالية وتأكيده على مضمون الأعمال الأدبية التي ينجزها، وكثيراً ما كان يؤكد على اعتزازه بتراثه العربي والسوري، لكنه كان يؤكد أيضاً أن اعتزازه الأساسي هو في قدرته على الانفتاح على العالم الثقافي وعالم الفكر الإنساني الواسع، فيقول: “كنت واحداً من الذين منحوا نعمة الانفتاح التي أرجو أن تظل مع تقدمي في السن بفرصة للانفتاح الأكبر على الفكر الإنساني”، وعبّر عن خشيته من تحول الإنتاج الأدبي إلى إنتاج إنشائي لغوي لأن ذلك يعرّض المجتمع والكاتب للسقوط، وقد أشار في أكثر من حوار إلى أن الثقافة في مفهومنا تعني الإبداع، ويضيف: “لقد لخصت موضوع رعاية ثقافة الإبداع وكتبت عنه من وجهة نظري في مشروع ثقافي وطني يجب أن يتحقق ولخصته بثلاث نقاط وقلت بأن هذا المشروع الوطني يجب أن تتبناه الحكومات العربية وليس فقط الهيئات الشعبية لأنه مشروع مهم يشبه المشروع التصنيعي وله أركان ثلاثة هي: الكشف عن أهمية ثقافة العمل بمعنى أن يصبح العمل مقدساً في حياة الأمة، ويجب على الإنسان أن يتفانى في عمله. والإتقان في العمل وهذا مذكور في الدين حيث إنَّ الله يحب العبد إذا عمل أن يتقن عمله، وبالتالي يجب أن يكون هناك ترسيخ لمفهوم الإتقان في المجتمع، والكشف عن قمة الإبداع في الفرد السوري مثلما يكتشفون البترول ويقومون بالتنقيب عنه وبالتالي يجب أن ينقبوا عن المواهب والإبداع عند الفرد.
نال الأديب وليد إخلاصي الكثير من الجوائز ليس أولها جائزة اتحاد الكتاب العرب التقديرية بدمشق 1990، وجائزة القصة العربية “محمود تيمور” في مصر عام 1994، ثم جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الرواية والمسرحية في دورتها الخامسة عام 1996، وغيرها من الجوائز، وفي عام 2005 نال وسام الاستحقاق الرئاسي السوري، كما ترأس فرع اتحاد الكتاب العرب في حلب أكثر من مرة، وهو عضو منتخب في مجلس اتحاد الكتاب العرب لثلاث دورات متعاقبات، وساهم في تأسيس مسرح الشعب والمسرح القومي والنادي السينمائي بحلب.
في قراءتنا لأعمال الأديب وليد إخلاصي وأفكاره، يمكن أن نتعلم أشياء كثيرة في فن الحديث وفن الحوار ومتعة الكتابة، واليوم يرحل عن دنيانا تاركاً قلمه ومحبرته ومفردات شخصيته المتفردة وتراثاً زاخراً بالإبداع، فلترقد روحك بسلام في عالمك الآمن أديبنا الكبير وليد إخلاصي.