أزمة أوكرانيا والاقتصاد العالمي
عناية ناصر
مر العالم بأوقات عصيبة منذ مطلع الألفية، منذ الإنهيار العالمي عام 2008، وأزمة الديون الأوروبية، وصولاً إلى جائحة كوفيد-19، لكن الأزمة في أوكرانيا يمكن أن تغير المشهد الاقتصادي لفترة طويلة، إذ من المرجح أن تلقي بظلالها على الثقة الاقتصادية العالمية. ويحتاج التفاؤل بشأن التعافي إلى الإقناع بأن الطريق أمام النمو المستدام سيكون سلساً، فمع ارتفاع مقاييس الخوف في السوق مثل مؤشر التقلب “فيكس”، وتراجع الرغبة في المخاطرة مرة أخرى، من المنطقي أن يتأثر إنفاق المستهلكين ونوايا الاستثمار التجاري في الأشهر المقبلة. وما لم يتم حل الأزمة بسرعة، فإن التوقعات الخاصة بالنمو العالمي هذا العام والعام المقبل ستتراجع، ولن ينجو أحد من تداعيات الأزمة حيث سيظهر تأثيرها على الاقتصاد العالمي بسرعة كبيرة.
كانت الثقة العالمية بالأساس محفوفة بالمخاطر خاصة مع استمرار انتشار الوباء، وتباطؤ نمو التجارة العالمية بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة، واستعداد السلطات النقدية الرئيسية في العالم لسحب دعم السياسة، فلم تساعد نية مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكية المعلنة برفع أسعار الفائدة على الأرجح في أقرب وقت في شهر آذار الماضي في تحسين الأمور. وبدأت الشكوك بالفعل تتسلل بشأن استدامة التعافي العالمي في المستقبل خلال الأشهر القليلة الماضية، مع ارتفاع التضخم واستمرار نقص سلسلة التوريد في الطلب.
لقد خفض صندوق النقد الدولي بالفعل توقعاته للنمو العالمي هذا العام إلى 4.4 في المائة في توقعاته لشهر كانون الثاني الماضي، متراجعاً 0.5 نقطة مئوية عن توقعاته في تشرين الأول 2021 البالغة 4.9 في المائة، و سيكون هناك المزيد في المستقبل مع تطور الأزمة الأوكرانية، حيث ستكون أوروبا أكثر عرضة للخطر لانخراطها في الصراع. فقد تتعرض توقعات النمو الأوروبي لضربة قوية، خاصة بالنسبة لألمانيا، بالنظر إلى علاقاتها التجارية القوية مع روسيا، التي ستعاني مع بدء تأثير العقوبات الاقتصادية والسياسية. و لا يتعلق الأمر فقط بالضرر المحتمل لتدفقات التجارة، ولكن أيضاً بخطر قيام روسيا بالرد على العقوبات الدولية بقطع إمدادات النفط والغاز عن الدول الأوروبية، الأمر الذي قد يقوض النشاط الاقتصادي ، ويعيد المنطقة إلى قبضة ركود آخر.
تعتمد أوروبا على روسيا في ما يقرب من 40 في المائة من غازها الطبيعي على الرغم من التحول المتعمد في السياسة نحو مصادر الطاقة المتجددة في السنوات الأخيرة. وستكون ألمانيا وإيطاليا معرضتين للخطر بشكل خاص، حيث يمثل الغاز الروسي 65 في المائة، و 43 في المائة على التوالي من وارداتهما من الغاز، وحتى ولو كان انقطاع إمدادات الطاقة مؤقتاً إلا أنه سيكون له تداعيات خطيرة على العمليات الصناعية، والاستثمار التجاري الجديد، وخلق فرص العمل، والإنفاق الاستهلاكي. كما أن من شأن تزايد عدم اليقين في المنطقة أن يلقي بظلاله على آفاق النمو ، مما يضع توقعات صندوق النقد الدولي لعام 2022 لنمو منطقة اليورو بنسبة 3.9 في المائة في حالة شك كبير.
وعلى الرغم من تعافي اقتصاد الاتحاد الأوروبي بشكل جيد بعد الانكماش الاقتصادي في عام 2020 بسبب أزمة كوفيد -19 ، إلا أـن هناك علامات مقلقة على أن الثقة الاقتصادية وزخم النمو ربما بلغا ذروتهما بالفعل، فمع ارتفاع التضخم مرة أخرى وتلميح البنك المركزي الأوروبي إلى اتخاذ موقف نقدي أكثر صرامة في المستقبل، قد يترك ذلك أوروبا معرضة بشدة لتدهور مفاجئ في المخاطر الجيوسياسية وزيادة عدم الاستقرار المالي العالمي.
وفي أسوأ السيناريوهات، ستطال العدوى العديد من الاقتصادات، إذ قد ينخفض النمو الاقتصادي الأمريكي هذا العام بسهولة إلى أقل من نسبة 4 في المائة التي توقعها صندوق النقد الدولي لعام 2022 ، في حال استمرت مخاطر العدوى العالمية في التدهور أكثر من ذلك بكثير، الأمر الذي يشكل معضلة خطيرة للسلطات النقدية العالمية، سواء كانوا على مستوى التحدي المتمثل في ارتفاع مخاطر التضخم أو من خلال القيام بالحفاظ على استقرار أسعار الفائدة، وهنا لا يوجد رابحون، لأن الثقة الاقتصادية العالمية ستنتهي بخاسر كبير.