نحن.. وغوركي
حسن حميد
بلى، قلتُ، وقد انتهيتُ من قراءة طفولة مكسيم غوركي (1868 – 1936)، لو أن هذا الرجل عاش ألف سنة وأزيد، لما انتهت الحياةُ من التكفير عن ذنبها وأغلاطها وقسوتها عليه، لأنها وضعت أمامه من العقبات ما يسحقُ الصخر، وقلتُ إنه محق في كتابة سيرة حياته، ولاسيما حياة الطفولة التي عاشها قهراً وألماً وصراخاً في وجه العالم الذي أدار له ظهره حين رحل أبواه عن عالم سمّاه عالم التخبّط والعماء!
ولكم حلا لي أن أعدّ مكسيم غوركي واحداً من عداد عائلتنا، لأن طفولته تشبه طفولتنا في صراخها الجهير في وجه هذا العالم الأطرش الأعمى الأخرس، إنه يشبهنا، ولاسيما حين مضى طوال حياته يبحث عن دفء الأمكنة، وعن الطمأنينة التي يفتقدها حتى في ألعابه مع أترابه في الشارع، وقلتُ أيضاً، إن حياة غوركي كلّها طفولة مشقاة مثل طفولتنا الملأى بالفقد والبكاء والأحلام التي لا تصير وقائع، لقد كان يهفو لأن يشرب الماء من كأس نظيفة، وأن يأكل رغيفاً أشقر قرب تنور من دون قلق أو أسئلة، أو أن ينفق ما وصل إلى يده من (كوبيكات) قليلة من دون أن يفكر بالخاتمة الأليمة، وهي عادة تقريع موجع وندم، وذهاب إلى الكاهن في الكنيسة كي يركع أمامه، فيرمي الكاهن خرقته المخملية فوق رأسه ليعترف بما أغمّه، يقول له إنه رمى حجراً نحو شباك الجيران، لكن الحجر لم يصل إلى الشباك، والزجاج لم ينكسر، أو أنه لصّ ما بقي من خبز الجدة لأنه جائع!.
أجل، مكسيم غوركي يشبهنا ليس في الشقاوة، وأسئلة الحياة الصعبة التي أصبحت محفوظات كالأناشيد نردّدها عفواً فحسب، وإنما هو يشبهنا في هذا التعب الخرافي الذي لا ينتهي إلا حين تخور طاقة الجسد، لقد عمل غاسل صحون فوق مركب في البحر، منذ ساعات الفجر الأولى وحتى ما بعد منتصف الليل، أي حين يتراخى الجسد فيهوي، فينام في المطبخ، ينام مبلولاً بالماء الوسخ، ومن دون وعي، ونحن عشنا حياة طفولتنا نعمل منذ ساعات الفجر الأولى وإلى ما بعد منتصف الليل من أجل أن نُحيّد كواره الحياة، ونُقصي الأخبار السود، ونقفز من فوق عجزنا، كي ننسى أن العالم تجاهلنا، وأن الكتب مرّت بنا ولم تكتب سطراً واحداً يروي حكايتنا، وأن الفرح انسحب إلى هناك وهنالك، وهو يلتفت إلينا فيقترب منا، لكأننا عدوان، ولهذا سلمنا بأن لا فرح لنا من دون أن نبني الحياة بأسباب الحياة.
بلى، وعينا أن حياتنا هي حياة مجدولة من تعب وأحلام، تماماً مثلما وعى مكسيم غوركي أن صفو الحياة تجاهل طفولته بسبب الفقد، وأن الفرح في مكان آخر، وهو للآخرين، لذلك سمّى نفسه بـ غوركي، أي المُرّ، وليست الصفة له كشخص بقدر ما هي صفة للحياة التي عاشها، لكن حياته زهت وهو يقترب من عافية الحياة والنشور حين صار اسمه يتردّد في كلّ بيت من بيوت روسيا، وصار الآخرون الذين ما قبلوا صداقته في طفولته وشبابه، يسعون إلى صداقته وتمجيده، والاعتراف بأن حياته كانت حياة كفاح ومشقات وتعب، وأنها حياة طاردت أحلامه حتى وصلت إليها، وحالنا هي كذلك فلا ديمومة لتعب، ولا ديمومة للمشقات، لأن الليل، ورغم طوله وسواده، ووحشته، ومخاوفه، وأسئلته الرّاعبة.. يعرف أن نهايته.. نهار.
Hasanhamid55@yahoo.com