ثقافةصحيفة البعث

اعتدال رافع وإبداع الوجع

اختارت الكاتبة اعتدال رافع منذ حوالي ثلاثين سنة العزلة والابتعاد عن بريق الشهرة، رافضة اللهاث وراء الزيف والمادة، فقد لاذت بحروف إبداعها لتعيش جنتها الأرضية التي فتحت أمامها أفقاً تحلّق فيه روحها في عالم لا يعرف الأنانية، بل يتيح لها فرصة معايشة أرواح آخرين معذبين سرقت أحلامهم مثلها.

وقد جاء الكتاب الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب بعنوان “اعتدال رافع وإبداع الوجع” للدكتورة ماجدة حمود، وعن اعتدال رافع قالت: لقد حاولت أن تنأى بنفسها عن معايشة بشر، ارتدوا مسوح التماسيح، فلم يهتموا بالمشاعر التي هي أساس الحياة، إذ لا معنى لها في رأيها دون تواصل إنساني، وقد شاءت قسوة الظروف أن تبعدها عن أحبتها (بناتها، أحفادها، وأخيها) لهذا عاشت الوحدة بأبشع معانيها ولاسيما بعد أن رافقها المرض.

زرعت الحياة في طريق اعتدال رافع أشواك الخيبة والوجع، هاجمها القهر ليمنع عنها أفراح الطفولة المبكرة (اليتم والفقر وقسوة الأم والزواج المبكر)، فلم تكتفِ بتحمّل أعباء كبار حاصروها بقسوتهم، بل تآمرت عليها ظروف ظالمة لتقهرها الأحزان والآلام، لهذا كانت دائمة البحث عما يجمّل حياتها ويهبها معنى، فلم تجد سوى الكلمة، بفضلها امتلكت التحدي، ومواجهة أعتى أعداء الإنسان (الإحساس بالظلم، وافتقاد الحب، والوحشة والمرض).

إن ما يدهش المتلقي تلك العلاقة الاستثنائية بينها وبين إبداعها، فهي تعيش كلمتها وتتنفس وجودها من خلالها، إنها فرحتها الوحيدة التي أمدّتها بالروح ودفعتها إلى الاستمرار في الحياة فقط، باتت صمام أمانها، تطرد بها وحشتها، لهذا أخلصت لها الود وتمسّكت بها كمن يتمسّك بحبل خلاصه.

صحيح أنها قد تضطر إلى الانقطاع عن الكتابة مدة من الزمن حين تهجم عليها أوجاع الحياة، لكنها سرعان ما تستجمع قواها الروحية وتلملم إرادتها لتتكئ على حروفها وتنهض من جديد.

ملامح من شخصية اعتدال رافع

ترعرعت اعتدال رافع في دمشق القديمة، بسبب عمل والدها في سلك الشرطة، وقد توفي وهي صغيرة، فتزوجت زواجاً مبكراً من الفنان أنور البابا (الذي عرف بشخصية أم كامل) لتستقر في دمشق كي تتخلّص الأم من مسؤولية طفلة جميلة وترحل بباقي إخوتها الصبيان إلى لبنان.

أكملت اعتدال تعليمها في بيت الزوجية حتى نالت الإجازة في التاريخ، وبدأت تكتب المقالات في الصحافة السورية والعربية، إلى جانب فن القصة القصيرة لكنها بعد إصابتها بالسرطان الذي قاومته أكثر من خمسة وعشرين عاماً بدأت تكتب الحالة الشعرية والقصة القصيرة جداً التي تقترب من الومضة الشعرية، لعلها وجدت في ذلك تكثيفاً مختزلاً لحالة الوجع، حتى جعلها معادلاً فنياً لها، دون أن يعني هذا القول أنها توقفت نهائياً عن كتابة القصة والمقالة.

وتعدّ اعتدال رافع من أهم رواد فن القصة السورية، لعلّ السبب في ذلك أنها لم تبدُ للمتلقي كغيرها من الكتّاب ممن يستهلون كتابة القصة القصيرة، لهذا لم تصدر مجموعات قصصية كثيرة على مدى عمرها الإبداعي الذي استمر أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، إذ صدرت ثماني مجموعات قصصية فقط.

ولطالما كانت اللغة المدهشة من أهم مكونات الحداثة القصصية عند اعتدال رافع، التي تقوم على التجديد في الرؤى واللغة ورسم الشخصية بطريقة غير مألوفة، لهذا تجلّت الحداثة في بعض قصصها، حين أكدت المؤلفة بصوتها وهمية شخصياتها في حين نجد مؤلف القصة التقليدية يؤكد واقعيتها.