صحوة أوروبية متأخرة..
بدأ الأوروبيون يستفيقون على نوع جديد من المشاعر إزاء حليفهم الأطلسي الولايات المتحدة الأمريكية الذي زيّن لهم فكرة العقوبات الاقتصادية على روسيا، فاندفعوا منساقين وراء مشاعر الحقد التاريخية على جارتهم الشرقية روسيا، وآثروا الانقياد الأعمى وراء ما تمليه عليهم واشنطن من عقوبات عليها دون أن يفكّروا بأثر هذه العقوبات الاقتصادية على اقتصادهم، ففي الوقت الذي ذهبوا فيه مجتمعين أو منفردين إلى إقرار عقوبات على موسكو تتناول أهم السلع التي يتم تبادلها أو استيرادها منها، ونقض الاتفاقيات الاقتصادية الكبرى المعقودة معها “السيل الشمالي 2″، أحجمت واشنطن عن اتخاذ مثل هذه العقوبات، بل جعلت من “شركائها الأوروبيين” مطيّة لإصدار مثل هذه العقوبات، بينما التزمت هي ذاتها نوعاً من التحفظ إزاء هذا الموضوع، في محاولة للإيحاء بأن الصراع في أوكرانيا لا يزال ضمن إطار الاتحاد الأوروبي، فامتنعت عن اتخاذ إجراءات باسم حلف شمال الأطلسي “ناتو” الذي تتمتع فيه بدور قيادي بارز، وأعلنت أنها لا تستطيع اتخاذ أيّ إجراء يمكن أن يؤدّي إلى نزاع عسكري مباشر مع روسيا، ولكنها في المقابل دفعت أوروبا إلى اتخاذ نوع من العقوبات هو بمنزلة إعلان حرب، وبذلك وضعت “شركاءها” رأس حربة في استفزاز روسيا، في صراع يجري أصلاً على الأراضي الأوروبية، وأيّ من الإجراءات الاستفزازية التي يتم اتخاذها انطلاقاً من أراضي الدول الأوروبية سيعرّض هذه الأراضي لردّ الفعل الروسي مباشرة.
كل ذلك فضلاً عن أن جميع التقارير تشير إلى أن الشركات الأوروبية التي تمّ تحييدها من خلال العقوبات الأوروبية على موسكو حلّت محلّها أو استفادت منها بشكل أو بآخر شركات أمريكية، الأمر الذي يشير إلى أن واشنطن تسعى ربما إلى تخريب علاقات أوروبا الاقتصادية مع روسيا لتأمين أكبر فائدة للشركات الأمريكية على حسابها حول العالم.
هذا الأمر استفاق بعض المسؤولين الأوروبيين على حقيقته متأخرين، وذلك بعد أن بدأت العقوبات المفروضة على موسكو ترتدّ سلباً على اقتصاداتهم، فألمانيا مثلاً تستورد 55٪ من غازها و42٪ من نفطها من روسيا، وذلك في الوقت الذي حلّقت فيه أسعار الغاز والنفط إلى أرقام قياسية لم تبلغها منذ نحو خمسة عشر عاماً، وهذا ما دفع وزيرة الصناعة الفرنسية أنييس بانييه إلى القول: “من السهل بعض الشيء” من جانب الولايات المتحدة “تعزيز العقوبات التي ستطبّق فقط على قارة واحدة والتي لن تلحق الضرر بقارة أخرى”، مشدّدة على ضرورة أن تتحمّل واشنطن جزءاً من الجهد الذي يتحمّله الأوروبيون في ذلك، لأن المطلوب إلحاق الضرر بالاقتصاد الروسي وليس الأوروبي، وذلك في إشارة واضحة إلى اعتماد الصناعات الفرنسية على مجموعة من المعادن النادرة والمهمة التي يتم استخدامها في صناعة السيارات والطائرات والإلكترونيات كالبلاديوم، والتيتانيوم، والنيكل، والكوبالت، والتنغستن، والبلاتين وحتى النحاس.
ومثل هذا الكلام أصبح لسان حال الأوروبيين جميعاً بعد أن تأكدوا أن كل ما تقوم به واشنطن في هذا السياق هو تحريض أوروبا على قطع جسور التواصل مع روسيا لإحداث أكبر ضرر في العلاقات المستقبلية بين بروكسل وموسكو، وبالتالي ضرب الاقتصادين الروسي والأوروبي معاً والوقوف متفرّجة على دمار كل منهما، حتى تتمكن واشنطن من الوقوف مجدّداً على قدميها على حساب انهيار الاقتصادات المنافسة.
ولكن مجريات الأمور على الأرض تؤكّد أن موسكو استفادت من العقوبات الأوروبية بنسبة أكبر من الضرر الذي أحدثته، بل إن مجرّد صمود الاقتصاد الروسي أمام مثل هذه العقوبات يؤكد فشلها في تحقيق أهدافها، وأكبر دليل على ذلك الارتفاعات القياسية لأسعار النفط والغاز اللذين لا تستطيع أوروبا بالمطلق الاستغناء عن الجانب الروسي في توريدهما، باستثناء بعض الدول التي لا تستطيع تحقيق التوازن في أسعار المادتين.
فهل تستطيع أوروبا استدراك المشهد قبل فوات الأوان، وخاصة بعد أن أعلن الطرف الروسي أن هذه العقوبات سيكون لها أثر مدمّر للعلاقات في المستقبل؟.
طلال ياسر الزعبي