دراساتصحيفة البعث

الجمهور الأوروبي المخدوع

عناية ناصر 

منذ بدء الصراع في أوكرانيا والعملية العسكرية الروسية، كان رد فعل الجمهور الغربي بالإجماع تقريباً هو الغضب، حيث تم تأطير روسيا على أنها “الشر المطلق”، وقام القادة الغربيون بفرض عقوبات قاسية ضد روسيا، ما أدى إلى هجرة الشركات الغربية. كما انخرط الغرب في رقابة واسعة النطاق ضد مصادر الأخبار الروسية، بما في ذلك حظر قناة روسيا اليوم، ووكالة سبوتنيك، والبث على وسائل التواصل الاجتماعي، ووصفها على أنها وسائل “بروباغندا “، كما قام أيضاً برفع دعوى ضد موسكو في المحكمة الجنائية الدولية. لقد تم تأطير كل هذا في السرد الغربي التقليدي والطويل الأمد القائم على الصراع بين” الخير والشر” وفق التعبير الغربي.

فمع احتدام مشاعر العداء الغربية ضد روسيا، يبدو أن هناك فقدان ذاكرة جماعي لحقيقة أفعال الغرب وإرثه في جميع أنحاء العالم، في الماضي والحاضر على حد سواء، وحتى عدم أسفه أو ندمه تجاه الدول التي دمرتها الولايات المتحدة وحلفاؤها بشكل عشوائي خلال العقدين الماضيين. ينظُر الغرب إلى حالة الوضع في أوكرانيا على أنه مأساة، ويجب تحقيق العدالة بشأنها، إلا أن إرث الغرب في أفغانستان والعراق وسورية والصراع المستمر في اليمن قوبل بلامبالاة جماعية وتجاهل وعلى أن نتائج هذه الأحداث في مثل هذه البلدان طبيعية.

على مدى  التاريخ الطويل للاستعمار الوحشي في جنوب الكرة الأرضية، لم يعتذر الغرب عن أفعاله بل يعتقد أنه قدم خدمة لمثل هذه الدول، فالسياسة الخارجية الغربية تخضع لوعي زائف على نطاق واسع، لكن إرث  مثل هذه الإمبريالية، على عكس ما يسمى بالقيم، هو الذي سمح للعالم الغربي (وخاصة البلدان الناطقة بالإنكليزية) بالعيش في ظل امتيازات كبيرة، من خلال الحفاظ على التفوق الثقافي والاقتصادي والعسكري على العالم. وقد أضاف هذا الامتياز لإحساسهم بالتقدير أنهم اكتسبوا وضعهم هذا من خلال التفاني “الورع” بتفوقهم الأخلاقي على عكس الواقع المادي للإمبريالية والسيطرة والغزو.

لقد تم تعليم الجمهور الغربي من خلال طبقاته الحاكمة تصديق أسطورة الاستثنائية الخاصة بهم من خلال الديمقراطية الليبرالية، ومن حقه التبشير بهذه الأيديولوجية للآخرين كخدعة للهيمنة، وأنهم يمتلكون احتكاراً لما يشكل الحقيقة والحضارة، و في شيطنة ما يسمى الأعداء “بالجملة” كتهديدات حقيقية للسلام العالمي من خلال تطبيق البروباغندا الفظيعة.

لقد خلق هذا الشعور المشوه بالذات مفهوماً ثنائي المستوى للعدالة في العالم، من خلال القوة والمكانة، حيث أصبح من وجهة نظر وسائل الإعلام الغربية والطبقات السياسية من المقبول تماماً تدمير دولة باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقتل ملايين المدنيين والتسبب في معاناة لا توصف دون أي عواقب. فعندما قامت المملكة المتحدة والولايات المتحدة على سبيل المثال  بغزو العراق في عام 2003 بحجة “أسلحة الدمار الشامل” المزيفة، تم إسكات أصوات الإدانة العالمية، ولم تستدع وسائل الإعلام السائدة ذلك، ولم يواجه الجناة بشكل رسمي اتهامات بارتكاب جرائم حرب، ولم  يتلق أولئك الذين كانوا يعانون أي نوع من التضامن أو الدعم العالمي أو الإدانة على الأفعال العدوانية التي ارتكبت بحقهم.

ففي آب الماضي، على سبيل المثال تسببت غارة أمريكية بطائرة دون طيار بموت عدد من الأطفال في أفغانستان، ولم يرف جفن للعالم حيال ذلك، حيث  يبدو الأمر كما لو أن أرواح هؤلاء الأشخاص لا تهم، وليس لها أية قيمة مساوية لتلك التي في أوروبا.

إن الهيمنة والامتيازات الغربية هي السبب في عدم إعلان المملكة المتحدة والولايات المتحدة كـ “دولتين منبوذتين”. ومع ذلك، حتى الآن، تدعم المملكة المتحدة والولايات المتحدة حرباً وحشية في اليمن يتضمن القصف العشوائي للمدنيين، و حدوث مجاعة وأمراض وأزمات إنسانية.

إن مثل هذا الوضع يمثل حقيقة أن الغرب يستخدم فقط أيديولوجيته وقيمه كأدوات في دعم هيمنته وبالتالي خلق عالم غير عادل. قبل حرب أوكرانيا، كان الغضب يتصاعد أيضاً ضد الصين، ويبدو أن الجمهور الغربي ليس لديه القدرة على إدراك متى يتم الكذب عليهم والتلاعب بهم.