دراساتصحيفة البعث

هل أضرت الحرب الأوكرانية بالنموذج الروسيّ لعالمٍ متعدد الأقطاب…؟

الدكتور سومر صالح 

القطبية في العلاقات الدولية أمرٌ بالغ التعقيد، فليس بمقدور كلّ قوةٍ التحول لقطبٍ بمجرد توفر فائٍض في القوة، أو حدوث تحولٍ في القوة وفقاً لافتراضات (أورغانسكي)، بل هيّ مسألةٌ بالغة التعقيد، ومتدرجةٌ، ومتكاملةُ مع توفر مقومات الاستمرارية (أيّ النموذج)، إضافةً إلى أنّه لا يمكن تصور تحول قوةٍ إلى قطبٍ دوليٍّ دون وجود ثقافة قطبيةٍ مقبولةٍ على الصعيد الدوليّ، مرافقةٍ لهذا التحول التاريخيّ، والأساس الشرطيّ لهذه الثقافة هو رسوخها في مركز نشوء القطبية الجديدة ذاتها، وهيّ مرتبطةٌ بنموذجٍ حداثيٍّ غيرَ مستنسخٍ من المركز الأوربي أو مشابهٍ له، بقدر كونه مشروعٌ قوميٌّ للدولة الناشئة قطبياً.

والمشروع الروسيّ لعالمٍ متعدد الأقطاب مجسّداً بالنزعة الأوراسية لم يخرج عن هذا الافتراض بل كان مجُسداً له، منطلقاً من أساسٍ ثابتٍ شرطيٍّ وهو قدرة روسيا على إنتاج رؤيةٍ ثقافيةٍ لذاتها، عبر إعادة إنتاج الوعيّ الروسيّ، ليستمد الروسيّ وجوده من ذاته الروسية بروحها الأوراسي وليس من المرجعية الغربية، وهذا يتطلب أن تنتهج روسيا ليبراليةً محافظةً تتماشى مع الخصائص الروسية، ووحدها الفلسفة الأوراسية، وعبر العولمة كنظامٍ عالميٍّ راهنٍ، يمكن أن تنتقل إلى بقية الشعوب في مواجهة الأمركة الحاصلة، ففكرة العولمة مرتبطةٌ بمفهوم العالمية، وأيّ ثقافة تخرج من إطارها الوطنيّ والقوميّ إلى مجالها العالمي، يمكن أن تتحول إلى ثقافة المركز ..

طبعاً المساعي الروسية لتغيير بنية النظام الدوليّ السّائد أو تعديلها، اتخذت بُعداً عميقاً مع الجذور الهيكلية لفلسفة هذا النظام القائم، عبر تقديم إطارٍ مرجعيّ فلسفيّ جديدٍ لهذا النسق الدولّي المتغير، إذ مثّل مؤتمر ميونخ للأمن (2007) لحظةٌ تاريخيةٌ لموسكو لإعلان انطلاقته، وصياغة رؤية النظام الدوليّ البديل، هذا البديل الفلسفيّ هو النظرية (النيو أوراسية/ الأوراسيانية) والتي تجاوزت الطروحات الأوراسية السابقة التكامل الأور- أطلسيّ  تيار (كوزيريف- يلستن)، التكامل  الأوراسيّ متعدد المنافع (أفكار نزارباييف)، المدرسة الجيو – اقتصادية، ومدرسة الاستقرار الأوراسيّ، والذي يعطي المهمة الأمنية لروسيا، بمعنى أن تحتفظ روسيا بالدور التنظيميّ والسيطرة غير الرسمية على أوراسيا، وتقوم بدور الموازن الإقليميّ، فالفكرة الأوراسية ليست فقط نظم القيم والهياكل السّياسية والعسكرية المضادة للأطلسيّ، بل هيّ مساحةٌ سياسيةٌ لنموذجٍ بديل.

تهدف النظرية الأوراسيانية إلى استحداث دولةٍ روسيةٍ عظمى عن طريق التكامل مع الجمهوريات السوفيتية السابقة، وبالدرجة الأولى الأقاليم التي ينطق أهاليها اللغة الروسية مثل القرم وأوكرانيا الشرقية (الدونباس)، عبر فلسفةٍ سياسيةٍ تُشكّل نهجاً للسياسة الخارجية الروسية مع ثلاثة مستويات (خارجية ووسطى وداخلية)، فعلى المستوى الخارجيّ، تشتمل هذه النظرية رؤيةً لعالمٍ متعدد الأقطاب، أيّ هناك أكثر من مركزٍ دوليّ لصنع القرار، أحدها أوراسيا التي تضم روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق، والأوراسيانية على المستوى المتوسط، تقول بالتقاء دول الاتحاد السوفيتي السابق، إلى جانب نموذجٍ عابر للحدود، أيّ تشكيل دولٍ مستقلة، أمّا على مستوى السياسة الداخلية، فهي تعني تحديد الهيكل السّياسي للمجتمع وفقاً لليبرالية المحافظة القومية، ففكرة أوراسيا بالمنطق الأوراسياني هيّ نسخةٌ بديلةٌ أو متعددة الأقطاب للعولمة، وهيّ ترفض النموذج الوسط المسمى ضواحي العالم، وهذه النسخة المعدلة للعولمة وهو ما يعول عليه الروسيّ، تنطلق من تجاوز خطايا الحداثة الأوربية، وتصحيح مسارها بإعادة الروح إلى الفرد والفرد إلى الجماعة، وتفكيك فكرة التقدم الحصرية الاتجاه في الثقافة الغربية، قائمةٌ (الأوراسيانية) على فكرة تصدير مفهوم الهوية القومية والحضارية للشعوب عبر أدوات التثاقف الدوليّ بما فيها أدوات العولمة نفسها، بما يتيح إنهاء مفهوم صدام الحضارات، وهو أحد الأسس الفلسفية للأمركة كنظامٍ للعولمة، أيّ أنّ جوهر العولمة الروسية “الروسنة” هو معاكسة الجذر الأميركيّ للعولمة وهو تجاوز الهويات الوطنية لسببٍ بسيطٍ، وهو فقدان الولايات المتحدة الهوية الحضارية، فأتى النموذج الروسيّ ليعيد بناء هذا الجذر كأساسٍ للعولمة المعاكسة، عولمةٌ تقوم على تعدديةٍ حضارية، وفلسفة العولمة الروسية البديلة تستغل ذات السياق المعولم لإعادة تشكيل البنية الثقافية للنظام الدوليّ من خلال مكونات ثقافتها القومية الجديدة “الروسنة”، والتي تعمل النخبة السّياسية الروسية وعبر أدوات القوة الناعمة على ترسيّخها في العلاقات الدولية، والتي يمكن إجمالها باطاٍر عامٍ وهو إعادة بناء المرجعية الفلسفية للنظام الدوليّ أيّ إعادة بناء الأيديولوجية الليبرالية ذات الطابع (النيوليبرالي) وإعادتها إلى الليبرالية المحافظة، وبعبارةٍ أدقّ تقويض الأساس الاقتصاديّ الثقافي القائم لهذه العولمة مع المحافظة على القيم السّياسية كالحرية والديموقراطية.. ولكن مع اختلافاتٍ جذريةٍ في الرؤية إلى العلاقات الدولية، تتأسس هذه الرؤية من الطبيعة الفوضوية للنظام الدوليّ ويمكن إجمالها برؤيتين: الأولى أولوية الاستقرار على الديموقراطية في حلّ النزاعات الدولية أيّ تحويل الاستقرار إلى القيمة المركزية التي يجب الدفاع عنها في العلاقات الدولية وليس نشر الأنظمة الديموقراطية عبر الحروب وخلق الأزمات، الرؤية الثانية وهيّ اعتبار القانون الدوليّ هو المعيار الأساسيّ لإدارة العلاقات الدولية بشرط تحرره من الانحياز الأيديولوجيّ لليبرالية الغربية، هذا وتُعدّ النظرية الرابعة لالكسندر دوغين بمثابة المرجعية الفكرية لنظام العولمة الروسيّ البديل الذي (يؤمن بعالم تعدديّ وأخلاقيّ؛ متعدد الحضارات بعيداً من المركزية الغربية).

انطلاقاً مما تقدم بدت الحرب الأوكرانية أو بالأدق كما صورتها (الدعاية الغربية) أنها تطبيقٌ جيوبولتيكيٌّ تقليديٌّ للأوراسيانية، بمعنى العمل العسكري أحاديّ الجانب، ومناقضٌ للرؤية الروسية لعالم متعدد القطاب وفق التنظير آنف الذكر (القانون الدوليّ والعالم الأخلاقي، وأولوية الاستقرار على الحرب) وفق المنطق الأوراسياني المعلن، وبدأت الدعاية الغربية (الروسوفوبيا) توجه حرابها على النموذج الروسيّ أكثر من تصويبها على العملية العسكرية ذاتها، فضرب النموذج يعني مقتل المشروع بغض النظر عن العملية العسكرية ونتائجها، وخصوصاً في الفضاء الأوراسيّ والتكامل المحتمل مع المشروع الصيني (حزام وطريق) في ذات الفضاء الجغرافيّ، فإثارة المخاوف من سياسات روسيا وتصويرها أنهّا دولةٌ “حيوية عدوانية”، يفقد النموذج الروسي احتمالية وإمكانية التأثير المعولم، وتصبح الروسنة (العولمة البديلة) مجرد أفكارٍ ستدثرها الأحداث.

للك يجب توضيح بعض النقاط الخاصة بالعملية العسكرية الروسية الخاصة، ومدى علاقتها بالتنظير الأوراسي لعالمٍ متعدد الأقطاب:

 النقطة الأولى، العملية العسكرية لم تكن أول الخيارات بل كانت آخرها، فمفاوضات الضمانات الأمنية (المسودة التي سلّمتها وزارة الخارجية الروسية إلى الجانب الأميركي في 15 كانون الأول الخاصة بالضمانات الأمنية، واتفاقية خاصة بإجراءات ضمان أمن روسيا والدول الأعضاء لحلف الناتو)، والردّ الاستفزازي الأميركيّ والغربيّ على ورقتي روسيا (مفاوضات جنيف -104/1/2022) جعلت التفاوض السياسيّ وقتاً فائضاً لصالح المشروع الناتوي.

 النقطة الثانية، أنّ الرؤية الروسية للاستقرار الاستراتيجيّ تقتضي “أنْ لا يكون مصطلح الاستقرار الاستراتيجي مرادفًا للنظام العالميّ، أو توازن القوى، أو مفاهيم شاملة أخرى على غرار التوازن الاستراتيجيّ الإجماليّ للنظام السياسيّ العالمي”، لأنّه بذلك يكرس الأحادية القطبية وسمو الثقافة الغربية على غيرها وهو ما ترفضه روسيا جملةً وتفصيلاً.

النقطة الثالثة، العملية الروسية في كازخستان كانت مؤشراً مهماً لحسن النوايا في المشروع الروسيّ لعالمٍ متعدد الأقطاب فهيّ بتفويضٍ من منظمة معاهدة الأمن الجماعي بدايةً، وعمليةٌ محدودةُ ومؤطرةُ زمنياُ ودليل ذلك سرعة إعادة الانتشار والانسحاب (6-19 كانون الثاني 2022)، وهو بالمناسبة ما أعلنته روسيا مراراً أنّ العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا تنتهي بمجرد زوال الخطر الأوكراني وحياديتها تجاه مشروع الناتو (النووي، والبيولوجي، البالستي) وعدم انضمامها إلى الناتو مستقبلاً.

النقطة الرابعة، تزامن التصعيد الغربيّ ضدّ روسيا واستفزازات القيادة الأوكرانية مع تطورٍ لافتٍ في المشروع الأوراسي بعد عقد المجلس الاقتصادي الأوراسي الأعلى (10/12/2021) وتوقيعه 20 وثيقة (11 قراراً وخمس معاهدات دولية) لتحقيق مزيدٍ من التكامل داخل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وهو خطوةٌ تلت مباشرةً توقيع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مع نظيره البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، (5/11/2021)، مرسوم اندماج روسيا وبيلاروسيا في دولة اتحاد، ويفهم من ذلك أنّ كل الاستفزازات الغربية وتوسع الناتو شرقاً (أوكرانيا – فلندا- بولندا..) هو لتطويق نواة المشروع الروسيّ لعالم متعدد الأقطاب (الاتحاد الأوراسي) بصيغته ربما (الكونفدرالية).

 النقطة الخامسة، روسيا لم تهدد أوربا بإمدادات الطاقة مسبقاً، ففي ذروه الخلاف وقبل العملية كانت خطوط أنابيب الغاز الرئيسية التي تمر عبر أوكرانيا (خط أنابيب يامال-أوروبا)، والتي تنقل حوالي 13 في المئة من إجمالي واردات أوروبا تعمل بانتظام، بالإضافة إلى الفرع الجنوبي من خط أنابيب النفط “دروزبا”، الذي يمر عبر بيلاروسيا إلى غرب أوكرانيا وإلى سلوفاكيا والتشيك والمجر، وهو ما يؤكد عدم عدوانية روسيا تجاه الغرب ولكن ليس على حساب أمنها القومي.

وأمام حجم الدعاية والتضليل الغربيّ المعاديّ للأوراسية يفترض على روسيا (اقتراحات):

 أولاً: تسريع ترسيخ الوعي الأوراسيّ بالأوراسية ذاتها (ثقافياً وسياسياً وحاجةً اقتصادية) لدى شعوب المنطقة الأوراسية تفادياً لموجه دعايةٍ مضادةٍ (للأسف لها حضور في تلك المنطقة)، وهو الأساس الشرطيّ اللازم لنشوء الثقافة القطبية الأوراسية، باعتبارها ثقافةً قطبيةً منافسةً وربما بديلةً عن الثقافة الغربية بطابعها الأمريكيّ، هذا الترسيخ يعتمد على التبسيط لهذه الثقافة ووضوحها في أهدافها وترسيخ الخرائط الجغرافية الأوراسية في ذهنية شعوب المنطقة، وهو ما اُصطلح عليه الجيوبولتيكيا الشعبية باعتبارها (محاولةً لتغيير محور الجغرافيا السّياسية نحو الجماهير وتفسيرات الأحداث من خلال الموروثات الثقافية الممزوجة بالهويات الوطنية).

ثانياً: تفعيل الدبلوماسية الشعبية باعتبارها جهودٌ مختلفةٌ ترعاها الحكومة حيث تهدف إلى التواصل مباشرةً مع الجماهير الأجنبية، لإقامة حوارٍ مخططٍ لتوعية والتأثير على الجمهور الخارجي حيث يدعم أو يتسامح هذا الجمهور مع الأهداف الاستراتيجية للدولة (نلاحظ هنا مدى تخطيط الغرب بمنع روسيا التواصل مع الجمهور الغربي بحجب مواقع التواصل الاجتماعيّ والبث الفضائيّ)، وهو ما يعقّد المسألة على روسيا، ولكن يمكن الاستعانة بالإعلام الصديق لروسيا أو إعلام الدول الصديقة لروسيا.

ثالثاً: استمرار روسيا في طلب انعقاد مجلس الأمن باستمرار وطرح الهواجس والحلول من خلاله، لتأكيد قناعة روسيا بالقانون الدوليّ والمنظمات متعددة الأطراف، ولو كان ذلك غير مجدٍ حالياً.

 رابعاً: تكاملٌ أعمق استراتيجياً مع الصين وتجاوز الهواجس المتبادلة في آسيا الوسطى، فكلاهما على بعد (نصف خطوة) من التكامل الدفاعي بعد مناورات (فوستوك 2018)، و(التعاون 2021)، والاستخدام المشترك لأنظمة الاستخبارات والسايبر والاتصالات…

خامساً: إعطاء دورٍ كبيرٍ للثنائي الفرنسي الألماني في حلّ الأزمة الأوكرانية وذلك لتوسيع لصدع الاستراتيجيّ بين الثنائي الأوربي والناتو الأميركيّ على خلفية مشروع (الاستقلال الذاتي الاستراتيجي الأوربي) الذي يُعدّ أحد أسباب دفع أميركا شرق أوروبا للحرب والتصعيد ضدّ روسيا كي يفشل هذا المشروع ويبقى الناتو حاجة أوربية ..

في الختام .. لا رومانسياتِ سياسيةٍ في عالمٍ فوضويّ، والقوة مازالت سلاح الحق، ونحن من مصلحتنا كشعوبٍ تمُارس عليها الإمبريالية، والاستعلاء الغربي، دعم المشروع الروسيّ لعالم متعدد الأقطاب، وقد نتفق مع وسيلةٍ روسيةٍ لبلوغ هذه التعددية وقد نختلف في أخرى، ولكن في النهاية كانت الحرب الروسية حرب الضرورة، وفشل روسيا في هذه الحرب ستدفع ثمنه كلّ القوى المناهضة للأمركة كنظامٍ سياسيّ للعولمة.