إلى معلمي أبي المأمون: الشجرة تزهر في غرفة الصف
في كلّ عام وبمثل هذا اليوم يحضرني الرّاحل محمود شحادة “أبو المأمون”، أستاذي في الصّف السّادس الابتدائي الذي استمرت علاقتي به سنوات طويلة، نتبادل – حين نلتقي – وداد الأب المعلّم مع ابنه التّلميذ الذي لم يغادر ذلك المقعد الخشبي المتّسع لثلاثة أطفال، حيث أتوسّطهم في الجلوس مثل برغوث عاطفي دائم الحركة.. لم أكن من التّلاميذ الأوائل في الصّف ولاسيّما في مادّتي الرّياضيات والعلوم، وكم كنت كثير الشّرود في الحصص المملّة أو الأخيرة من اليوم الدّراسي؟!. وأنا القادم من قرية بعيدة مع أهلي ونسكن أطراف العاصمة الغريبة عن عالمي الرّعوي مصحوباً ببعض من الحصى حملتها من نبع القرية وخبّأتها أشهراً عدّة في جعبتي القماشية إلى أن أخذت أمّي منّي تلك الحصى ووضعتها في بقايا منديل وعلقته في سقف بيتنا الخشبي الجديد كتيمة أو حرز واخز للذّكريات.. وذات درس طلب منّا معلّم اللغة العربية أن نقرأ بطريقة معبّرة كالتي قرأ فيها عبارته التي لا تنسى: “بنيّ، القراءة المعبّرة هي إحساس بما تقرأ”، وقد كانت القصيدة للشّاعر خير الدّين الزّركلي التي يقول في مطلعها: العين بعد فراقها الوطنا لا ساكناً ألفت ولا سكنا.. ريانة بالدمع أقلقها ألّا تحس كرى ولا وسنا..”، إلى آخر القصيدة المقررة في كتاب القراءة الخاص بتلاميذ الصّف السّادس في بداية السبعينيات من القرن الماضي.
بدأ التّلاميذ واحداً تلو الآخر يستظهرون قراءة القصيدة أمام الصّف باللغة التي أوصى بها معلمنا “القراءة المعبرة”، وقد تطلّب الأمر من البعض تحريك يديه في إشارة إلى تفاعلهم مع ما يقرؤون أو أن يعلو الصّوت في جملة دون سواها، وكلّ حسب ما يستطيع من أداء تمثيلي للنّصّ، وحين جاء دوري بالقراءة واقفاً أما السّبورة اعتذرت من الأستاذ ورجوته: لا أستطيع القيام بذلك أمام الصّف لأنّني أخجل من النّظر في عيونهم ولم أعتد أن أكون سواي.. تفهّم الأستاذ حرجي وقال لي: من الممكن أن تقرأ وأنت مغمض العينين أو جالس في مكانك.. قلت: له سأقرأ واقفاً أمام النّافذة المطلّة على شجرة المشمش المزهرة في فناء بيت جيران المدرسة والسبّورة على يميني، وعلى يساري فضاء الصّف المزدحم بالحواسّ البريئة.
حين بدأت القراءة انهالت تفاصيل قريتي البعيدة كلّها والتي دمّر العدوان الإسرائيلي بعض بيوتها وقتل من أهلها البسطاء ماقتل.. فاضت عليّ نبع الماء ورائحة التّين والصّفصاف المدلل حول البحيرة.. وتذكّرت حقل أبي وأشجار الكينا العالية حين تميل برأسها مع الهواء..
قرأت وأنا أعيش ذلك المكان محاصراً بالفقد، ولم أنتهِ من قصيدتي لأنّ الكلام لم يعد يخرج من فمي، حيث الحروف تلعثمت مع البكاء.. لحظات لا أعرف أين أنا!!.. أغمضت عيني محاطاً بذراعي أستاذي لأرى بعدها دموعه العزيزة.. أستاذي يبكي معي!!.. نعم، لقد كان الدّرس الأكثر بلاغةً في حياتي من معلّمي الجميل، ومن كلّ ما تعلمته في الحياة، لن أكون أنا التي لا أخجل فيها.. ولن أكون إلّا سواي التي تنتمي للبلاد ولهواء خفيف يحيط برفّ الحمام.. رحمك الله أبا المأمون.. معلّمي: كل عام والحياة بخير.
أكسم طلاع