الأم الشهيدة الحية
غالية خوجة
ما زالت روحها تلمع، وتنبض مع روحي، وأرى وجهها يشع في كل قصيدة، ثم أقرأ لها ما كتبت، فتبتسم وتحزن وهي تشعر بفطرتها بالمعنى العميق.
كم امتلكت إحساساً بلّورياً رافقها حتى عندما عادت لطفولتها المتأخرة، وصراعها مع الأمراض المتعددة، وصبرت وحمدت الله على ما قضى.
أمي التي جعلتني أمها في المرحلة المؤلمة الأخيرة، تغافلني وتسمعني صوتها وهي تدعو لنا: “الله يحميكم أينما كنتم”، وتذكرني كيف كانت يومياً تضفر شعري وأنا ذاهبة للمدرسة وهي تغني: “بكرا بتكبر غالية وبتروح ع المدرسة”، فأمسح دموعها ودموعي، لكنني لا أستطيع أن أمسح آهاتها الحزينة من روحي ودمي وقبري وكلماتي.
لا أعرف لماذا دمعاتي كلما وصلت لعينيّ التهبت وتبخرت واحترقت، وذرفت آلامي وآلامها، بينما صوتها يمازحني: “غالية، خبئي اللوليات”، فأخجل منها أكثر وأبكي ولا أبكي.
أمي ما زالت تنشد معي: “حماة الديار”، وكانت تشفى كلما ذكرت لها اسم سورية، أمي الصابرة احتملت وحيدة ثم وحيدة فراقنا، وغربتنا، والحرب الظلامية الإرهابية على سوريتنا، وفتحت بيتها للنازحين من الجيران القريبين والبعيدين، واحتضنت الوطن منذ طفولتها، وحدثتنا كيف دافعت عنه مع أهلها والجميع ضد كل محتل وظلامي.
كل منا لا يتوقع حياته بلا وجود أمه الواقعي، لكنها المرة الأولى التي تفعلها أمي وتغيب عن حياتي إلى الأبد، لتعود إلى بارئها، تماماً كما فعلت الأمهات السابقات، وستفعل اللاحقات، وسنفعل نحن.
وبينما أكتب هذه الكلمات أشمّ روائح أزهار برية غريبة، كأنها عطور من مجرة أخرى، تزور الأرض ليس في يوم عيد الأم فقط، بل في كل لحظة تمتلئ فيها هالاتنا بالصفاء الأزلي.
وتكريماً للأم التي مهما عملنا لن نمنحها حقها، ذكرها الله في آياته البينات، ومنها “وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً”، “وبراً بوالدتي ولم أكن جباراً شقياً”، كما كرمها النبي محمد صلى الله عليه وسلم:”الجنة تحت أقدام الأمهات”.
وهذا التكريم تاج على رأس كل أمّ وامرأة، ولا بد للأبناء أن يراعوه مهما كانت ظروفهم الحياتية، لأن من يُكرم أمه يكرمه الله، وهذا الإكرام من الخالق للإنسان لن يستطيع فعله الناس والجان وإن اجتمعوا.
والتكريم الرباني ظاهر وباطن، وهو بحد ذاته نعمة من نِعَم الله التي لا تحصى، فما أجمل أن يزرع كل منا الواجب الجميل مع الناس، وأولهم الآباء، ثم الأولى بالمعروف.
كم نحن بحاجة إلى زرع البر والخير في هذا الزمن العصيب الذي أوصل مجتمعنا إلى حالة من التفكك الأسري والاجتماعي والأخلاقي، وكم علينا أن نزيد الغراس الطيب لنكون في المفهوم المضيء من “العروة الوثقى”، لتزداد أساسيات بنائنا إشعاعاً لا نريد عليه من الناس لا جزاءً ولا شكوراً.
لعلنا نبدأ من الآن، قبل فوات الأوان، لأن جميعنا في هذه الحياة نمضي في رحلة قصيرة جداً، لا نريدها سوداء أو رمادية.
لأمي وأمهاتكم سلاماً ورحمة ونوراً ومحبة تجعل أمهات الشهداء والشهداء الأحياء مطمئنات ونحن نقدم إليهن ورود الوفاء والصبر الجميل والنصر والأمل بالعمل، لأن أبناءهن قدمن لنا ورود الوطن والشرف والإخلاص.
سلاماً لأم الشهيد التي أتمنى أن نخصها بيوم وطني نسميه “يوم أم الشهيد السورية”، ويكون لهذا اليوم طابع رسمي تعود ضريبته لعوائل الشهداء، وننصب لها صرحاً في كل محافظة وقرية وريف، وأن نحتفي بها بمهرجان أدبي شعري وقصصي على مستوى سورية، يتزين بحضور أمهات الشهداء وبناتهن وزوجاتهن وخطيباتهن ليتم تكريمهن في يومهن معنوياً ومادياً وبأوسمة وشهادات تقديرية وتكريمية، فهل نحن فاعلون؟