مجلة البعث الأسبوعية

الرابسودي السوري ترانيم أثرية بمغناطيس أرواح حضارية

البعث الأسبوعية-غالية خوجة

ماذا يعني الرابسودي RHAPSODY؟ وكيف جسدته سورية بجمالية مثقفة وأوصلت رسالتها الإنسانية الحضارية بلغة عالمية؟

الرابسودي موسيقا إنشادية طربية ملحمية تجذب الإنسان بكليته إلى عالم صافٍ يرفرف كما الروح، فيحلق بين أعماقه والآخر والكون بمحبة وسلام وطمأنينة، وهذا ما عكسته الموسيقا الأوركسترالية الملحمية “الرابسودي السوري/the Syrian Rhapsody”، المؤلفة من 14 Section، والمنعزفة على مسرح اليوبيل بدبي بآلات موسيقية عربية وغربية متنوعة موشاة بأصوات كورالية، لتعبّر عن مراحل حضارية ثقافية تأريخية فسيفسائية تعكس جذورنا وطريقة تفكيرنا ماضياً وحاضراً ومستقبلاً مختزلاً بـ(3) كلمات “معاً المستقبل لنا”، وهو شعار مشاركة سورية بجناحها في إكسبو دبي2020، والتي جاءت بتنظيم هذا الجناح والأمانة السورية للتنمية، بينما الخلفية الموسيقية الدائمة التي يسمعها زوار جناحنا فهي الترنيمة الأوغاريتية الأثرية المعتبرة أول مدونة موسيقية مكتوبة في العالم بعمر 3500 سنة.

فلسفة الابتهالات

يبدأ الرابسودي السوري بمقدمة موسيقية تضع المتلقي وجهاً لوجه مع الكون من خلال أصوات العناصر الرباعية المتهاطلة بصوت عميق خافت، يتصاعد تدريجياً وكأنه الحضرة، ليشعّ بموسيقا الرياح والفراغ والأرض والسماء والبرق والرعد والمطر والفصول والسنوات والصمت الإنساني المترقب والصوت الكوني المتناغم، ليأخذنا معه إلى الفصل الأول والألفية الأولى عبْر بوابة أنشودة المعابد “نيكال” وهي تخرج بجمالياتها العريقة من لوحها الطيني لتكون على المسرح وتنشدها أول امرأة في التأريخ البشري- وغنتها بصوتها الأوبرالي ميرنا قسيس محلقة بين المونولوغ والديالوغ، ثم لتتشكل الألحان دائرة من الشمس والسنابل، ترفرف يصوت المغنية إيلونا دنحو، وتطير مع مشهد الحقول الافتراضي متخللة الأشعة الطبيعية وأشعة كلمات الأنشودة الأولى لمار يعقوب السروجي وزمنها عام 450.م، منسابة مع الأنشودة الثانية لمار أفرام السرياني وأمومتها للقدود الحلبية العالمية.

ثم، ترتفع الحالة الدرامية مع عناصر السينوغرافيا ومنها كنوزنا الأثرية المعروضة على الشاشة، وترتفع أكثر مع اللهب المنشد المؤكد على موسيقانا كنيران على أعدائنا، رغم الحرائق التدميرية المهزومة، بينما تترمّد النغمات ببطء حزين لتعود وتنهض مثل الفينيق، متلفّحة بصوت الإنسان السوري المنتصر المتفاعل مع الفصل الموسيقي الثالث يإنشاد صوفي فسيفسائي متماوج مع كل من صوت المنشد حامد داؤد، وحركة دوران الدراويش، وهنا، تلوح الشبكة الدلالية الموسيقية للقدود بإيحاءات متداخلة مع الترنيمة ألأوغاريتية والإنشاد الكنسي وحزمة الموسيقا المتحركة في لحظة واحدة يتلاحم فيها مدّ الإيقاع وجزْر اللحن وفلكلور العصور.

سيمفونية بخمس حركات

الملفت أن التعاشق الروحي جعل الرايسودي سيمفونية سورية مؤلفة من 5 حركات لا 4 حركات كما هو مألوف، معتبرين كلاً من المقدمة والخاتمة حركتين نضيف إليهما 3 حركات تمثل الفصول الثلاثة، وتتشكّل  من 5 مسارات متشابكة هي: دائريةَ التكوين، ابتهاليةَ الروح، متثاقفةَ الحضارة، عالميةَ الإنسانية، كونية الرؤى.

ذاكرة من صلصال وتكنولوجيا

تفتحت هذه الذاكرة الأثرية بأسلوب فني معاصر رافقته التكنولوجيا الحديثة، وقدمته ببراعة الفرقة التي قادها المايسترو ميساك باغبودريان، ومديرها أمير قرجولي، بينما النص الموسيقي فكان من تأليف وتوزيع الموسيقار الملحن إياد الريماوي، بمشاركة 110 مميزين بين موسيقي وتقني وفني ومغنّ سوري بينهم بعض الأجانب، لمعت مهارتهم بالعزف وبزغت طبقات أصواتهم بتكامل وتفاعل سيمفوني أوبّرالي إنشادي متميز بعدة لغات، كما شكّل الأداء الفردي والثنائي والجماعي – صوتاً وموسيقا- مداخل متعددة للذات الإنسانية السورية منذ 3500 سنة من خلال أول نوتة موسيقية مكتوبة في العالم على مرّ العصور، احتضنتها أوغاريت السورية، واكتشفت في خمسينيات القرن الماضي مع 36 رقيماً طينياً، وجرت عدة محاولات لترجمتها كأبجدية حروفية إلاّ أنها كشفت عن نفسها كنوتة موسيقية بعد 20 سنة من محاولات الترجمة، وعرفت بترنيمة نيكال، وتبيّن أن رقيمها ذاته (6-H) يتضمن تعليمات لضبط الآلة التي تعزف عليها وهي آلة بتسعة أوتار (الكنّارة) الأشيه بالقيثارة التراثية القديمة، وتعليمات خاصة بـ”دوزنة” القيثارة على المقامات الموسيقية القديمة وهي 7 مقامات أساسية دوّنها فيما بعد فيثاغورس.

الافتتاحية لغز فيتالي

لكنّ السر الذي استعصى على الجميع، كشفه الباحث السوري “راؤول غريغوري فيتالي” من خلال الكلمة اللغزية الافتتاحية، وكان لا بد من عزف النوتات حسب الأبعاد الموجودة على الرقيم، إضافة إلى أن كل مقطع صوتي هو وحدة إيقاعية، وكل 3 وحدات تشكّل قياساً موسيقياً “بُعداً”، بينما الزمن في لوحة التدوين فهو مثل زمن موسيقا الفالس، وتجدر الإشارة إلى أن تنويتة “فيتالي” عزفها الباحث الموسيقي زياد عجان على آلة البيانو بمناسبة اليوبيل الذهبي لاكتشاف أوغاريت عام 1979 في قصر البلدية باللاذقية.

رائحة الشعاع الأثري

أذهل الرابسودي السوري العالم تأليفاً وأداءً وحضوراً، وباغتت موسيقاه بجمالها الاستثنائي عقول وقلوب وأرواح الناس، بمختلف لغاتهم وجنسياتهم وألوانهم وعقولهم، وجعلتهم يرون الصورة الأجمل للحياة وهي تشع من سورية بين ابتهال ودعاء ومعاناة وحروب وصراعات وتحولات وانتصارات.

إعجاز الغناء العربي

 

ولمعرفة المزيد عن الرابسودي السوري من أهل الاختصاص، تواصلت “البعث الأسبوعية” مع عدد منهم، ويبدو أن أغلبهم غير مطلع على هذه الموسيقا، لدرجة أن أحدهم سألني: ما هو الرابسودي؟! إلاّ أن الفنان والعازف جلال جوبي، أجابني: أنشودة نيكال هي موسيقانا الأم، أمّا الرابسودي السوري فتميز بالبانوراما منذ البداية إلى النهاية، نحن بالأصل ليس لدينا موسيقا عربية بل موسيقا شرقية وغناء عربي، لأن موسيقانا أحادية ولا تقبل “الهارموني”، نحن عالميون بموسيقانا وهويتنا وغنائنا الإعجازي.

الجماد يزهر بالموسيقا

ورأى جوبي أن الرابسودي السوري كعمل موسيقي هو بداية لفتحٍ جديد إذا تمّ اعتماده للتدريس في المعاهد الموسيقية ليُستوعب، لأن من الكلاسيكيين من يستحسن أو يستهجن هذا النموذج الذي علينا أن نمنحه فرصته التجريبية، لأنه عمل إبداعي متحدّ وجبّار في زمن الحرب، وإن كنت أتمنى أن يعكس هويتنا السورية بصفاء أكثر، صحيح أن الموسيقا لغة عالمية لكنها هويات محلية، ولأن العربي تطربه الكلمة، إضافة إلى بعض الجهل الموسيقي، فلماذا لا ندرّس الموسيقا بجدية في المدارس لإنشاء جيل موسيقي.

وواصل: الموسيقا ضرورة حياتية وليست ترفاً، وتؤثر حتى في الجماد، لذا، لا بد من تأسيس موسيقي تنهض به الجهات المعنية ولا بد أن يكون أي فنان مثقفاً موسيقياً، وتابع: ومن تجربتي مع المخضرمين مثل نديم درويش وعبد القادر حجار وكامل بصّال وصباح فخري الذي كنت من فرقته 25 سنة، لاحظت أن الغناء العربي كان على حساب الموسيقا، وهذا ما تنبّه له الملحنون المميزون، فانعطفوا إلى المقدمات الموسيقية، مثل مقدمات محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي لأغاني أم كلثوم، بينما الموسيقا، ومنها الرابسودي، فتتطلّب إغماض العينين لنسمعها ونفهمها، رغم أنها لم تظهر الهوية السورية كما يجب وكما رأيناها بصرياً على شاشة العرض المرافقة، بل امتزجت بالكثير من الموسيقا العالمية.

حجر أساس إبداعي

واختتم: أصل الغناء ظهوره من المناطق الدينية، وهذا الاندماج بين الأناشيد الدينية في الرابسودي السوري لن يفهمه المستمع العادي، لذا، نحن بحاجة إلى تطوير وتأسيس موسيقي لأنه علم لا ينتهي، ومن الممكن أن يكون هذا الرابسودي سابقاً لعصره، وحجر أساس لمشروع كبير جداً، لذا، أرحب بهذه التجارب التي هي عملية إبداعية بحتة، لنصل إلى جماليات إبداعية عالية أكثر.