تراجيدياً.. الحياة تتفوق على المسرح بامتياز
تُعرف التّراجيديا أو المأساة بأنّها محاكاة أحداث حزينة أو جادة، ويُعرّف المسرح التراجيدي بأنّه العمل الدّرامي أو الأدبي الهادف للبحث في الأسئلة الوجودية بصورة جدية ومأساوية، وأوّل ما ظهر هذا المسرح في اليونان، وبينما يميل بعض المؤرخين إلى القول إن مسرح الكوميديا التّراجيدية هو الأساس الذي تطوّر عنه هذا المسرح، يقول مؤرخون آخرون بانعدام معرفة تاريخ نشوئه، لكن تسجّل البحوث استخدام كلمة تراجيديا أوّل مرّة في القرن الخامس قبل الميلاد لوصف نوع من أنواع المسرحيات التي تقدّم ضمن المهرجانات اليونانية، كما تسجّل أنّ عدد الأعمال التي وصلت إلينا لم يتجاوز الاثنين والثّلاثين عملاً، ويذكر مؤرّخون كتّاب التّراجيديا الرّومانية المبكّرة: كوينتوس إينيوس وماركوس باكوفيوس ولوسيوس أكسيوس، وتعدّ مسرحية “تيتوس أندرونيكوس” لـ وليم شكسبير من أشهر المسرحيات التّراجيدية العالمية وتروي –باختصار- قصّة الجنرال “تيتوس” الذي أراد الانتقام من ظالميه، ومقابله كانت هناك ملكة تريد الانتقام منه لقتله أبناءها لتبلغ المأساة ذروتها والصّراع أشّده بوقوع مجزرةٍ جماعية.
كما يذكر المؤرّخون أنّ عام 1949م، شكّل ثورة في المسرح التّراجيدي، إذ كتب الكاتب المسرحي آرثر ميللر مقالاً يتّجه فيه إلى فكرة أن تكون الشّخصيات المركزية في هذا المسرح شخصيات عادية لا مرموقة المناصب كالأمراء والملوك على خلاف السّائد آنذاك، وفي البحث عن مصادر هذه التّراجيديا نقرأ أنّها استمدّت مواضيعها قديماً من الشّعائر الدّينية والأساطير، ثمّ كانت الأدبية سمة بعضها لاحقاً، لتنتقل بعد ذلك إلى الحياة اليومية، أمّا في العصر الحديث فقد تراجعت أو انعدمت التّراجيديا بالمعنى بهذا المعنى واستمرّت بأشكال مختلفة، فالبعض قدّم هزلاً غير لائق والآخر هرجاً ومرجاً لم نعرف هدفه، وآخرون عرفوا من أين تؤكل الكتف فأكلوا وما شبعوا من عروض همّها الوحيد كسب القليل من المال على حدّ قولهم، طبعاً لن ننسى عروضاً تراجيدية منكّهة بالفكاهة وخفّة الظّل والهدف النّبيل استمّد الكاتب موضوعاتها من الحياة اليومية وعذاباتها وجسّدها الممثلون على خشب المسرح أيّما تمثيل، فهم هنا ليسوا بحاجة لكثير من الجهد لإظهار الألم وشدّ انتباه الجمهور ونيل استعطافه أو تحريك مشاعره، لأنّهم يعيشون مآسيهم ذاتها ويتشاركونها مع متابعيهم -عبر القنوات التّلفزيونية والإذاعية ووسائل التّواصل الاجتماعي- ويبثّون شكواهم وتعبهم وإرهاقهم من الهمّ الشّخصي في المهنة من قلّة الأجور وشظف العيش وقلّة الأعمال المسرحية والشّللية، وكذلك الهمّ العام المخيّم على الجميع من انقطاع التيّار الكهربائي إلى الماء والمازوت والغاز وارتفاع الأسعار وصعوبة المواصلات والتّنقل والجريمة التي تصدمنا كلّ يوم بمقتل طفل أو شاب أو امرأة لأجل بعض المال، أو لأجل التّخلص من عار أنجبته لحظة حبّ صادقة وتخلّى المحبّ أو لحظة رغبة جامحة أو سطوة وتنصّل المجرم، وفي كلّ هذه الحالات لم يكن هناك رادع أمامه لا الدّين ولا الأخلاق ولا القانون، لذلك فإنْ كان الحزن أساس المسرح التّراجيدي والموت نهايته فالممثل يحقق هذين الشّرطين مسرحياً وواقعياً، وإن كانت محاكاة الحدث لا تقتصر على نقله من الواقع إلى خشبة المسرح بل تتضمّن إحداث تغييرات تتناسب وهدف العرض، فقد كان بإمكان المسرحيين على اختلاف اختصاصاتهم فعل ذلك، سواء أكانوا كتّاباً أم ممثلين أم مخرجين أم فنيي إضاءة، إنّهم جميعاً وكما يقال “في الهوا سوا”، وهم بذلك يحققون ما قاله أرسطو عن هيكل العمل التّراجيدي وضرورة أن يكون معقّداً لا بسيطاً، فهل هناك ما هو أكثر تعقيداً من السّنوات القاسية التي عشناها ونعيش تبعاتها اليوم؟.
وبالبحث عن مكوّنات التّراجيديا، نجد اتفاقاً على ما ذكر أرسطو ولو اختلفت التّسميات، لكن هناك شبه إجماع على أنّ القصّة هي المكوّن الأكثر أهمية ويجب أن تحقق شرطين هما: التّحوّل والاكتشاف، ولحسن الحظّ وسوئه معاً أنّها متوافرة وبكثرة بحياتنا اليومية عموماً وحياة المسرحيين خصوصاً، فمن يعاني كلّ ما سبق ذكره من الطّبيعي أن يكون لديه قصص وتفاصيل كثيرة وردود أفعال أكثر تختلف من ممثلٍ على آخر، أمّا العنصر الآخر فهو الفكرة وابتكار القول وهذا أمر لا يصعب على الفرد العادي، فكيف على مسرحي يخوض كلّ يوم من الصّباح وحتّى المساء ثنائيات حواريّة مع البائع حول ارتفاع الأسعار، ومع زوجته حول تأمين حاجيات الأولاد والمنزل، ومع ربّ العمل حول ساعات الدّوام والأجر الذي لا يتناسب مع الجهد الشّخصي والظّرف العام، ربّما تعلّم أيضاً تخصيص كلّ شخص بلغة تناسبه وتتوافق معه، كذلك المناورة لغةً وسلوكاً.. يعرف متى يسترسل في الحديث ومتى يقصر فيه، كما أنّه أتقن الشّجب والنّحيب والاستسلام ربّما فالـ”عين بصيرة واليد قصيرة”، وهو في كلّ ما ذكرنا قادر أيضاً على إيصال فكرته بوضوح وسهولة وتحريك المشاعر، سواء أكانت سلبيةً أم إيجابيةً، بكائيةً أم غنائية، فنصير جميعاً جوقةً للتّخفيف من التّراجيديا القاسية، وكأنّنا أطفال صغار لا وسيلة للتّعبير لدينا سوى هاتين الحالتين الشّعوريتين.
ولكي يقدّم المخرج المسرحي هذه القصص والأفكار للجمهور لابدّ من شخصيات تؤدّيها وتتقن انفعالاتها وتغيّراتها وصراعها مع الشّخصيات الأخرى، وها نحن ومعنا المسرحيون نعيش كلّ هذه التحوّلات بصفاتنا الفطرية وإن انحرف البعض قليلاً عنها بحكم الظّروف، فصارت المرأة تحمل بعض صفات الرّجل والعكس صحيح، ولكن هذا لا يؤثّر على الأدوار التي يؤدّيها كلّ منهما على أتمّ وجه في مشهد مسرحي يجذب الجمهور ويمتّعهم دون أدنى جهد من الممثلين أو المخرجين.. مشهد لا يمكن للخيال ابتكاره ولا الاقتراب منه حتّى وإن حاول البعض ذلك، لكن كلّ ماقدّم كان دون المأساة بكثير.. مشهد طال أمده ومللنا رؤيته وننتظر كلّ يوم أن يسدل السّتار على آخر فصوله لنحتفل معاً بمسرح جديد لا مكان للتّراجيديا والموت فيه.
نجوى صليبه