ثقافةصحيفة البعث

معرض عبد الله مراد.. الرسم الذي نصغي إليه

عُرضت في صالة البيت الأزرق للفنون أعمال الفنان عبد الله مراد (1944) الذي يعدّ من رواد الفن التجريدي السوري حالياً، إذ حافظ على خصوصيته الفنية خلال عقود من إنتاج اللوحة والمثابرة على حضوره الفني كواحد من أجمل الفنانين السوريين على الصعيد الإنساني، مما أكسبه احتراماً ومودة واسعة في أوساطهم رغم اختلاف نهجه الفني الذي يعدّ ثورياً على المستوى الذوقي العام، ومختلفاً في تبني رؤية أكثر بساطة وعمقاً تنتسب لعالم الرسم والتعبير عبر اللوحة المسندية أو بعض مجاوراتها الشكلية التي تولدت من محاوراته التجريبية والتوليدية، التي تميل نحو نزع الصفات الشكلية عن الموجودات ومنحها صفة جديدة أكثر لياقة بوجودها في الحيّز الإنساني. ومن المؤكد أن الحسّ الخاص والمرهف ينتصر لمصلحة توقعات عبد الله مراد التي تتولد من بعضها واثقة من بنائها المجرّد من الغائية أو الوظيفية التي يتفق عليها الجماعة أحياناً، مما يعني أننا أمام عالم سريّ عميق لا يشبه أي عالم آخر رغم تشابه الهواجس البصرية وتأثرها ببعضها، حتى أنني أحسب أن الفنان ذاته لا يمتلك أي مبرّر لهذا الوجود سوى أنه يفعل ما تمليه ذاته البعيدة عن المباشرة وما يتفق عليه من تعبير.. ربما هواجس طفولية أو متعة التعرف على اللغة الجديدة التي يكتشفها على هذا السطح الذي يتشكّل بفعل حيوية الألوان والخطوط، وما تؤلفه من انسجام يرضي هذا الصانع المبحر في ذاته، وبما ارتكبت يداه من توليد لهذه التوقعات التي لم تكن موجودة لولا حريته وسلامه الداخلي المدهش.. أشكال تلمح لبعض ما يحيط بنا ونعرف، يضعها في عالم جديد بعيد عن التشبيهية كافية لتكون هي ذاتها مخيلته بكامل سطوتها النفسية ومنزوعة من عتاد الواقع الفج، هو هكذا يذهب نحو الصوت والموسيقى التي تؤلف مدناً في السماء أو تعزف فداحة الخسارة الناتجة عن زحف التمساح في حديقة الخزف، كما يربكه السؤال عن معنى اللوحة كونها كينونة خاصة: “اللوحة لغة تتشكل من الصمت وتسمع بالعين وتدرك بالبصيرة.. إنها كينونة خاصة لا علاقة لها بما هو كائن، بل هي نسيج لوني يرتعش بحياة خاصة بعيداً عن السرد أو الأدب”.

كتب الفنان الحمصي الراحل بسام جبيلي: “إن عمله أشبه بالارتجال الموسيقي أو التقاسيم، فهو يقفز إلى فراغ اللوحة مستبدلاً الأصوات بالخطوط والألوان ليخلق موضوعاً ذا إيقاع بصري مسيطر، وهو يركّز على المكان، أرضية اللوحة، حتى لنكاد نشعر أنها مبنية بمجموعة من النفحات اللونية المتقاربة، والفراغ هنا ليس حيادياً بل هو مشحون بآلاف الإيماءات الرهيفة”.

كما كتب عن المعرض الناقد والنحات غازي عانا: “عبدالله مراد.. الفنان المثقّف العارف بكل أحوال اللوحة وما تحتاج، هو إلى اليوم ما زال يجرّب باحثاً عن حلول أفضل لتكويناته، ليبدو كما لو أنه بدأ للتوّ بالرسم أو التلوين، هكذا نشعر أو مثلما هو يشعر ولا يخفي ذلك، وخاصة عندما يكتشف معنا متعة تلك التفاصيل التي يتعرّف على بعضها لأول مرّة بهذا الشكل وبالمصادفة التي يلتقطها بمهارة، يوظفها بما يخدم باقي المفردات والمؤثرات التي حولها لتنضج وتتماهى مع غيرها مضيفة لمجموعة العناصر التي لم تكن بهذا الشكل من التناغم قبل هذه اللحظة، وهي تشبه شعوره بالنشوة بعد أن يسترق السمع لمديح بأعماله، هذه الحالة وغيرها من مواصفات شخصية الفنان التي تتسم بالعفوية والطيبة، والصدق الذي أكثر ما نلاحظه في لوحاته”.

يعتبر هذا المعرض من المعارض المتميزة، إن لم يكن من أهمها، بما يحمل من خصوصية تفرض وعياً مختلفاً باللوحة والفن التشكيلي وتفرض قدراً كبيراً من الأهمية لضرورة مراجعة الحالي من الفن التشكيلي السوري وخاصة الذي تتبناه بعض الجهات، سواء أكانت رسمية أم خاصة أو حتى بعض المشتغلين في إنتاج اللوحة، مثل بعض الفنانين الذين يطفون على سطح الصفحات الزرقاء ويتناوبون على صالات العرض بأعمالهم المشوشة لحقيقة الفن ودوره في تشكيل الوعي ورفد اللائق بالابتكار.

أكسم طلاع