واشنطن “تنحر” حلفائها اقتصادياً بقطع تجارة الطاقة الحيوية مع روسيا
البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة
وصلت التناقضات الناجمة عن الغطرسة الأمريكية والأوروبية إلى حد الاستنزاف، فقد كشفت إحصائيات رسمية صادرة عن إدارة معلومات الطاقة أن الولايات المتحدة عززت وارداتها من النفط الروسي الشهر الماضي، وشكل الحجم الإضافي المستورد زيادة بنسبة 43 في المائة، على الرغم من الأمر التنفيذي الذي أصدره جو بايدن في 8 آذار الماضي بفرض حظر على كافة واردات الطاقة والمواد الهيدروكربونية الروسية.
مما لاشك فيه، أن الولايات المتحدة لا تعتمد بشكل كبير على روسيا في إمداداتها من النفط الخام، وبحسب إدارة معلومات الطاقة، فإن روسيا ليست من بين الموردين الخمسة الرئيسيين للولايات المتحدة، حيث تأتي معظم واردات البلاد من النفط الخام من كندا والمكسيك والسعودية، ما يجعل الولايات المتحدة أقل اعتماداً على النفط الروسي من العديد من شركائها الأوروبيين. ومع ذلك، فإن التصعيد الواضح لشراء الولايات المتحدة للنفط الروسي يثير الكثير من التساؤلات، في الوقت الذي تطالب فيه واشنطن الحلفاء الأوروبيين بحظر استيراد النفط والغاز والطاقة من روسيا. ولا يقتصر الأمر على الأوروبيين فحسب، فقد قامت الولايات المتحدة بالضغط على الهند ودول آسيوية أخرى لتقليص واردات الغاز والنفط والمنتجات البترولية من روسيا.
نظراً لأننا في بداية شهر نيسان، يعتقد البعض أن ما تقوم به واشنطن يشبه نكتة “كذبة نيسان”، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، فالموقف الهزلي لواشنطن يدل على مدى التهور والعبث الذي وصلت إليها الغطرسة الأمريكية.
ومن الواضح أن واشنطن تريد من حلفائها المزعومين أن ينتحروا اقتصادياً بقطع تجارة الطاقة الحيوية مع روسيا، وذلك للاستجابة لأجندتها الفعلية للحرب الباردة بهدف عزل موسكو وإخضاع جميع الدول للهيمنة الأمريكية. وبطبيعة الحال، تنطبق نفس الأجندة الجيوسياسية على الصين، على الرغم من أن ذلك قد تراجع إلى حد ما نظراً للتوترات المباشرة مع روسيا.
قد لا تعتمد الولايات المتحدة بشكل كبير على النفط والغاز الروسي، لكن العديد من الدول الأخرى تفعل ذلك، إذ تعتبر روسيا من بين أكبر الموردين العالميين للغاز والنفط والمنتجات البترولية. ويعتقد أصحاب القرار الأمريكيون أنه بإمكانهم تجنب الأذى، على الرغم من أن بايدين- في علامة على مدى عدم جدوى قراره – أمر باستخدام مليون برميل نفط يومياً من الاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي لمدة ستة أشهر من أجل خفض الأسعار الجنونية لمحطات توزيع النفط الأمريكية.
لكن مستوى الغطرسة الذي وصل إلية السياسيين الأمريكيين مثير للاستغراب ، ففي حال امتثل الحلفاء المزعومون لإملاءات واشنطن، فسيؤدي ذلك إلى دمار فوري لاقتصاداتهم، كما سيتأثر الاقتصاد الأمريكي على المدى القريب، بشكل كبير من سلاسل التوريد العالمية.
لقد أصبحت أزمة الطاقة العالمية والتضخم الاقتصادي العام، أو الفقر بلغة أوضح المشكلة السياسية المركزية في جميع أنحاء العالم. وقد فاقمت التوترات بين الغرب وروسيا بشأن العملية العسكرية في أوكرانيا المشكلة، فقد كان من الممكن تجنب الحرب في أوكرانيا لو تجاوبت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو مع مطالبات موسكو لإيجاد حل لمخاوفها الأمنية المتكررة، لكن القوى الغربية رفضت مقترحات روسيا ودعواتها إلى دبلوماسية حقيقية.
يرى محللون أن إحراز تقدماً بعد عدة جولات من المحادثات بين أوكرانيا وروسيا قد أصبح ممكناً مع وجود مؤشرات أولية على ذلك. وبحسب ما ذكر الجانب الأوكراني، فقد قبل بمطالب روسيا بحياد أوكرانيا وعدم انضمامها لحلف شمال الأطلسي والاعتراف بمطالبة موسكو التاريخية بشبه جزيرة القرم، فضلاً عن استقلال جمهوريات دونباس الناطقة بالروسية.
ومن الجدير بالإشارة، أن هذه النتيجة مماثلة لما كانت تطالب به روسيا في الأشهر التي سبقت تفاقم التوترات التي أدت إلى الحرب، فقد كان من الممكن تجنب المعاناة غير الضرورية ومأساة الحرب لولا موقف الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي غير المبرر.
ومع ذلك، لم يتضح بعد ما إذا كانت واشنطن ستستخدم حق النقض على المحادثات التي ستحرز تقدماً، لأنها تدعم نظام كييف بالأسلحة والقروض المالية، فليس من عادة واشنطن أن تدعم السلام في نهاية المطاف، فهي تحتاج بالفعل لوجود صراعات وتوترات دائمة، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمكنها من الهيمنة على العالم. وعلى الرغم من ذلك، يشدد المراقبون على أهمية وضرورة التوصل السريع إلى تسوية سياسية في أوكرانيا وبشكل عام بين الغرب وروسيا لتحقيق السلام والأمن على المدى الطويل.
ومن غير المجدي أن تصر واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون على عقوبات أشد ضد روسيا بدلاً من معالجة الأسباب الجذرية لتوسع الناتو والهيمنة عبر الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، لأنه من المؤكد أن ما تقوم به الولايات المتحدة سيؤدي إلى دوامة دافعة نحو تدهور الاقتصاد العالمي على نطاق تاريخي ومن شأنه أن تؤثر على كل دول العالم، لا سيما الأكثر فقراً وضعفاً، بسبب تعرضها لصدمات الأسعار.
يبدو أن الغطرسة الأمريكية والخنوع الأوروبي لا يعرفان حدوداً، فقد جمدت الدول الغربية الأصول الخارجية لروسيا البالغة 300 مليار دولار. وفي الوقت الراهن، أصدر الرئيس بوتين مرسوماً يقضي بأن تتم كافة مشتريات الغاز المستقبلية بالروبل بدل الدولار أو اليورو، وسيؤدي الفشل في تلبية مطالب روسيا إلى قطع صادرات الغاز.
في الحقيقة إن معاملة موسكو للدول الغربية بالمثل له ما يبرره، إذا شعرت القوى الغربية أن من حقها إحداث تغيير في شروط التبادل التجاري أحادي الجانب، فلماذا لا ينبغي لروسيا أن تعاملها بالمثل؟.
لكن من المدهش أن تبدي بعض الحكومات الأوروبية استعدادها الامتثال للأوامر الأمريكية حتى عندما تقودها هذه الأوامر إلى الهاوية، فقد تسببت التداعيات الاقتصادية لهذه السياسة “المازوشية” المدمرة في إطلاق العنان للفوضى الاجتماعية، حيث يتحمل المواطنون في أوروبا والولايات المتحدة وطأة تكاليف المعيشة الباهظة، وتواجه إدارة بايدن وحزبه الديمقراطي ردة فعل انتخابية معاكسة في انتخابات التجديد النصفي المقبلة هذا الخريف.
وحتى أن هناك شعور متنامي بأن التداعيات السياسية أكبر بكثير من رد الفعل الانتخابي، إذ تعيد سياسة المواجهة الأمريكية مع روسيا والصين وغيرهما إنشاء نظام عالمي للحرب الباردة لا يمكن الدفاع عنه. ولهذا تتماشى الحكومات الأوروبية الخانعة مع هذه الأيديولوجية المهزومة بذاتها بدافع الجبن أو العجز عن الفهم، على الرغم من أن النتيجة هي تدمير اقتصاداتهم ومجتمعاتهم. كما أن الولايات المتحدة من خلال سعيها للهيمنة تقوض أسس قوتها، والحلفاء الأوروبيون الذين يتبعون هذا الجنون يتسببون بالانهيار الاقتصادي لبلدانهم، إذ تعمل النخب السياسية في الغرب على إثارة الفوضى الاجتماعية في دولها.
إذاً يعتبر تحرك روسيا لتسعير غازها وسلع أخرى بالروبل خطوة ملموسة بعيداً عن عصر عملات احتياطي الدولار واليورو، وقد بدأت الصين والهند ودول أخرى في تبني عالم خالٍ من الإملاءات المالية الغربية ليظهر نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، حيث لم يعد يتم التسامح مع القوى الغربية باعتبارها ذات امتيازات.