ما دور التراث في حياتنا المعاصرة؟
البعث الأسبوعية-غالية خوجة
التراث ذاكرة تراكمية للحياة تتواصل عبر العصور لشعب ما، وتستمر بالحضور عبْر الأجيال بمجاليها المادي وغير المادي، مما يمنح هذا المجتمع ملامح مشتركة ومتفردة، ولذلك تهتم بها الشعوب كما تهتم بها اليونسكو لتكون تراثاً عالمياً مصوناً للإنسانية جمعاء.
لكن، ما دور هذا التراث الأدبي والعمراني والشعبي في تفاصيل حياتنا؟ وكيف نوظفه ثقافياً وفنياً واستثماراً سياحياً؟ وهل هو شرط من شروط الهوية والانتماء؟
أجابنا د.فاروق أسليم: ثقافة كل أمة عريقة خصوصية، لأنها منتج تأريخي، فلا وطن بلا مواطنين، ولا مواطنون بلا ثقافة ينتجها تأريخهم المشترك فنياً وسلوكياً، والثقافة العربية تجسيد لبناء واسع عريق عبْر الحضارات المتعاقبة وتشابكها معاً، والثقافة السورية جزء من ثقافة الأمة العربية، ولا يكون التراث إلاّ إذا كان ممتداً إلينا، والحديث عن التراث حديث عن الحياة، والحياة متكاملة، والمعادلة إعادة الرونق والحياة إلى التراث، وإعادة رونق التراث إلى الحياة.
التراث الأدبي
قال: هو مجموع ما يكتب في مجال العلوم الإنسانية، وأذكر أن ما يطلق عليه العصر الجاهلي كان أرقى مما قبله، وأرقى مما نعايشه، وأراه أكثر تطوراً حضارياً تعاملاً وفكراً لا سيما الشعر الجاهلي وتعامله مع اللغة والطبيعة والمرأة والحياة.
وتابع: نحن أمام تنوع في الوعي العربي ونمط الحياة، وميزة الحضارة العربية الانفتاح والتسامح وقبول الآخر، والكرامة والسيادة، واللغة العربية عالمية بفعل التأريخ وليس بفعل العرب، ورسالتها خالدة مستمدة من القرآن الكريم والأخلاق، والهوية السورية مقاومة للعدوان ومن ثوابتها الكرامة والسيادة رغم التسامح والانفتاح، وللأجيال أن تعي هذه الهوية وهذا التراث، وهذا دور الجهات المسؤولة التعليمية والثقافية، ولا بد من معالجة أي مرض بدراسته، ومعرفة أسبابه وإشكالاته ومواجهتها، وكذا، لا بد من معالجة الخلل بين التراث والحياة المعاصرة من خلال تفعيل العقل والنقد.
اللتراث العمراني
رأى د.صخر علبي مدير الآثار والمتاحف بحلب: لدينا مشكلة مع المصطلح، لذلك علينا أن نميز بين التراث، الثقافة، الحضارة، وهذا ما على الجيل أن يتنبه له، لذلك، هناك فرق بين الأبنية التراثية، والأبنية الأثرية، والأبنية التأريخية، لكن، لماذا التراث؟ سيفهم المتلقي التراث ما قبل الحرب، لأن الجيل الجديد لا يعرف مدينة حلب القديمة بجامعها الأموي وأسواقها ومشربياتها وفضاءاتها المعمارية، لأنه لم يرها، رغم أننا نرممها ونعيد حجارتها المتبقية كما كانت، لذا، لا بد من الفصل بين التراث المادي، واللا مادي، لأن طلابي، مثلاً، لا يعرفون الحياة داخل المدينة القديمة، تلك المدينة المأهولة التي نعرفها على مر أجيالنا، ولن أنسى كيف قالت لي زوجة السفير الألماني عندما استقبلتها قبل الحرب: لا أريد الفنادق المعاصرة والحياة الجديدة، بل أريد أن أرى الحياة داخل حلب القديمة، والقادم لسورية يأتي لزيارة المدينة القديمة، فهل التراث هوية؟ أم شرط الهوية؟ التراث يمنحني خصوصيتي وهويتي، وأضاف متسائلاً: لقد افتخرنا بتسجيلنا القدود الحلبية تراثاً إنسانياً عالمياً، لكن، ماذا فعلنا للقدود الحلبية؟
التراث بناء البشر والحجر
وأكد د.علبي: التراث حجر وبشر، المباني حجر، ونحن نعيد بناء الحجر ولا بد من بناء البشر، ولنتساءل: كيف سنحافظ على المباني الأثرية؟ من خلال عدة وسائل وحلول، منها الورشات ومعرفتنا بأهمية المكان ومعوقاته وتطويره، لكن، كيف سأسكن في بيت تقليدي في هذا الزمن؟ هناك اقتراح بإعادة إسكان المدينة القديمة، مثلاً، تقديم قرض مناسب، والاهتمام بالخدمات الترفيهية المتواكبة مع تطورات الحياة، والاهتمام بتوظيف المباني الأثرية كاستثمار سياحي مثل الحمامات العامة، وتوظيف التفاصيل المعمارية في المباني الحديثة مثل المشربيات، وفتحات التهوية الطبيعية، والزجاج المعشق لٌلإضاءة والحرارة.
وأردف: جذور هذا التراث موجودة، والمباني القديمة متشابهة، وروحها واحدة، بغض النظر عن ساكنيها الذين نفتقدهم، متسائلين عن البيئة الحلبية المحلية وتحولاتها المعاصرة؟ وقانون الآثار ينطبق على تدمر كما على أصغر بيت في مدينة حلب القديمة، ونحتاج إلى استكمال مشاريعنا العمرانية البنائية ومشاريع القوانين، ومناهجنا وقفت قبل 20 سنة، إضافة للاهتمام بالخدمات الصحية، وتأمين المتطلبات الحديثة، وأؤكد، لا بد من التطوير، خصوصاً، أن المدينة القديمة إرث عالمي، والاستثمار الثقافي السياحي ضرورة، مع التنبيه إلى عدم المساس بالأوابد مثل قلعة حلب والجامع الكبير الأموي الذي حضرت ترميمه مرتين، الأولى عام 2005، والثانية في مرحلة إعادة الإعمار والبناء الحالية.
وهل التراث الشعبي يواكب أيامنا؟
أجابنا د.محمد حسن عبد المحسن: التراث لا يشيخ، والأمثال والأقوال الشعبية مثل أزهار النرجس النابتة في أعالي الجبال، لا يعرف من قالها ولا من زرعها، لأنها بلا مؤلف، ولأنها تراث جماعي متراكم، ولكي لا تنسى الأجيال تراثها، لا بد من تسجيل هذا التراث الشفاهي الشعبي، ولقد دونت بعض هذا التراث من خلال جلساتي في المقاهي مع الناس الكبار واهتماماتهم وأقوالهم وذكرياتهم.
استرسل: تراثنا متنوع، منه ما هو سلبي كتشبيهاته للمرأة مثل المكنسة والرجل مثلاً “الرجال في البيت رحمة ولو كان فحمة”، بينما لدينا تراثنا الإيجابي مثل القدود التي أصبحت عالمية، وبعض تفاصيل الحياة الاجتماعية العاكسة للقيم والشهامة والتعاون والتعايش، ومنها المقولة الاحتفالية الشعبية “سفرة مريم” للأم حديثة الولادة، واجتماعياً “هز” فنجان القهوة يعني شكراً، لأن ساقي القهوة في المجلس يجب أن لا يرى لا يسمع لا يتكلم، وهذا يتعلق بالأدب الاجتماعي.
أعرج حلب وصل للهند
وتابع د.عبد المحسن: أيضاً هناك الاهتمام بالمخلوقات الأخرى، مثل قوافل الجمال، التي خصص لها قسم من الخانات التي تفرد الطابق الأعلى للسكن والأرضي للبضائع، وهناك مثل يقول: “أعرج حلب وصل للهند والصين”، وكانت السمعة أساس التجارة، “تاجر الدينار واسمك في البلد تاجر، وبألف دينار بنفسك اوعَ لا تتاجر”، الحياة الاقتصادية بحلب قائمة على التجارة، الصناعة، الحرف اليدوية، وأغلب كنيات أهل حلب عائدة إلى الصنعة مثل عائلة النحاس، الحداد، ومن ذكاء الحلبي أن التجار يلتقون بمنطقة فيها 3 حارات ليحلوا القضايا والمشاكل ويدرسون السوق ومتطلباته، بحضور شيخ النحاسين، شيخ الحدادين، إضافة إلى تمتع حلب بحياة اجتماعية متكاملة ومنها نداء الباعة الجوالين الذين يجذبون المشتري بكلماتهم.
واختتم: هذا يظهر في بنية الحياة الثقافية والفكرية بحلب لأنها ثقافة وعي يواكب الإنسان، وله شخوصه من مشايخ ومفكرين وبحاثة وأدباء، وله أماكنه مثل الزوايا الصوفية، والمدارس العريقة مثل المدرسة الخسروفية، ولا ننسى لأناشيد التي تطورت واحتفت بها المقاهي مثل مقهى الشهبندر الذي أقام فيه محمد عبد الوهاب أول حفلة له في حلب وحضره 4 سميعة، فأدهش ازدحام الحاضرين لحفلته في اليوم الثاني، ويحضرني العلامة خير الدين الأسدي الذي جمع 50 ألف مأثور شعبي وصححها بيد واحدة لأن يده الثانية مقطوعة.
لنهرب بالتراث
أمّا الشاعر حسن عاصي الشيخ، فرأى أن هناك من هو هارب من التراث، ويعتبره سبب المصائب، وهناك من هو هارب (إلى، وفي) التراث، فلا يرى الخلاص إلاّ بالعودة إلى إليه، وهناك من هو هارب بالتراث يقرأه جيداً ويستخلص الإيجابي منه المواكب لحياتنا ومستقبلنا، ويلفظ ما يعيق تطورنا الحضاري، وبذلك ينجز المعادلة المتناغمة بين الأصالة والتراث والحداثة.
الوعي البيئي وقرى الطين
ولفتت المترجمة د.زبيدة القاضي إلى كتاب “قرى الطين” الصادر عن وزارة الثقافة السورية، وأهميته في مناقشة حياة التراث، وكيف وظفت تلك القرى العديد من التقنيات البيئية الطبيعية في البناء بوعي صحي وبيئي لمقاومة الظروف آخذة بالاعتبار عناصر التهوية، والضوء، والتدفئة، والتنقية، متسائلة: لماذا لا نستفيد من هذه التقنيات الطبيعية مع التقنيات التكنولوجية والعمرانية في حياتنا؟ ولماذا لا ندرس التراث من أجل السياحة والعلاج أيضاً؟
أين العمليات الميدانية؟
أمّا الكاتب د.فايز الداية فتساءل: لماذا لا نعيد تحقيق المخطوطات والكتب والذاكرة التراثية؟ موسوعة خير الدين الأسدي حققت منذ 40 عاماً، أرى أنه لا بد من إجراء عمليات ميدانية أيضاً في كافة المجالات الحيوية ومراجعة الموروث المادي واللامادي من جهات الاختصاص.