ثقافةصحيفة البعث

نزار قباني ومحمود درويش أحضرا الناس من كل مكان إلى أمسياتهما الشعرية  

فيصل خر تش

حضرت إلى المدرسة الثانوية وأنا أحمل في حقيبتي ديوان ” قالت لي السمراء” للشاعر نزار قباني، اشتريته من إحدى المكتبات يوم البارحة، وأريته لصديقي الفلسطيني الطيب الذي يجلس إلى جانبي، فامتعض لدى رؤيته، وقال لي: يجب ألا تقرأ مثل هذا الشعر، قلت لماذا؟ قال: لأن هذا الشاعر يهتم بالنساء، ولا شيء سواهن، فأسقط في يدي، وقلت في نفسي، وماذا عليه إذا تناول المرأة في شعره، كلَنا نحب النساء، ولكنني فضلت الصمت، وفي الاستراحة، أقنعني أن لا أقرب من دواوين الشاعر نزار قباني، فهو لم يقل:

آمنت بالشعب المقيد والمكبل

وحملت رشاشي

لتحمل الأجيال بعدي منجــل

وكنا في تلك الأيام نحمل، أنا وصديقي، سطل النشاء، وننطلق بعد الدوام، لنعلَق صور الشهداء وأخبار العمليات العسكرية التي يقوم بها الفدائيون، في كل مكان من أرض فلسطين، كنا نضع “السلك” حول رقبتنا ونحن نرتدي ثياب الفتوة، نقلد الفدائيين، ونمضي نلصق البلاغات العسكرية، التي تهيج شوقنا إلى العمل الفدائي، خاصة أن مشهوراَ الذي يجلس أمامي قد التحق بالعمل الفدائي، ولم يعد أحد يقرأ القصيدة بعد قراءة مدرس اللغة العربية، بدون أخطاء، وها هم الفدائيون والفدائيات يتمشون في منشية الباصات، وقد وضعوا السلك حول رقابهم، وارتدوا الثياب المموهة، يتركون في قلوبنا أسى ولوعة:

سجل أنا عربي/ سلبت كروم أجدادي/ وأرضاَ كنت أزرعها/ أنا وجميع أولادي/ أنا لا أسطو على أحد/ ولكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي، فحذار حذار من جوعي ومن غضبي.

بعد المرحلة الثانوية، انتقلت إلى الجامعة، وأصبحت أكثر انفتاحاَ، ومرة رأيت إحدى الزميلات وبيدها ديواناَ للشاعر نزار قباني، فطلبت منها ألا تريني الديوان، فاستغربت، وقلت لها الكلام الذي سمعته في الثانوية الذي لا أزال أحفظه، فردت بغضب، بأن نزار أعاد للمرأة كرامتها، إنه القائل: تخرج المرأة من بيتها مرتين، مرة حين تتزوَج ومرة حين تموت، وتؤخذ إلى القبر.

فيما بعد، رحت أتسلل إلى المكتبة، وأستعير دواوين نزار قياني، وأجلس إلى الطالبات وألقي عليهن شعره، وأجعلهن يستلقين على طاولة المقصف، لأني كنت أتمتع بإلقاء سليم وبحة صوت نادرة، وصرت أتحدث لهن عن نزار الشاعر، فالقصيدة عنده، تتلبسه تماماَ، وباكتمالهما تكتمل الشاعرية، حيث ترتد القصيدة على صاحبها لتعلنه شاعراَ، وتنصبه امبراطوراَ على شعرية الصوت دون منافس، الشاعر الذي عشق القصيدة وهي تتلى، إذ بتلاوتها تحضر الروح وتغدو أشياء العالم في متناول يده “تصبح يد حبيبتي مكان يدي، وفمها كتاباَ أقرؤه قبل أن أنام، ودبوسها المنسي على الطاولة حمامة لا تريد أن تطير”.

لقد صاغ المرأة شعراَ، من عينيها يبدأ الماء، وهي البذرة التي لا تفتأ تتكاثر وتتكاثر، وحيث تكون المرأة يكون الخصب والنماء ويخضر الشجر وترتفع السنابل ويمتلئ العالم بالورد والقمح والأطفال.. حيث تكون المرأة تفيض أنهار الحياة وتتكاثر ذرية النجوم وذرية القصائد”.

“وسيماَ أنيقاَ طالما أنه موجود في كنف المرأة وفي حمايتها، وحين ترفع يدها عنه يشيخ عشرة آلاف سنة في سنة واحدة”.

“المرأة التي أحبها تصبح جميع النساء، هذه هي معجزة العشق التي لا معجزة أكبر منها”.

وحين زارنا الشاعر نزار قباني في حلب، أقيمت الأمسية في الصالة الرياضية، فلم يكن هناك أوسع منها، لقد أتى الناس من كل مكان، ومن كل المحافظات، كانوا يجلسون على المقاعد، وكثير منهم كانوا يجلسون على الأرض، ويومها ألقى الشعر قصيدة لحلب، وفيها يقول:

“كل الدروب لدى الأوربيين توصل إلى روما/ كل الدروب لدى العرب توصل إلى الشام/ وكل دروب الحب توصل إلى حلب/ صحيح أن موعدي مع حلب تأخر/ ربع قرن/ وصحيح أن النساء الجميلات/ لا يغفرن لرجل لا ذاكرة له/ ولا يتسامحن مع رجل/ لا ينظر في أوراق الرزنامة/ ولكن النساء الجميلات/ وحلب واحدة منهن/ يعرفن أيضاَ أن الرجل الذي/ يبقى صامداَ/ في نار العشق خمساَ وعشرين سنة/ ويجيء، ولو بعد خمس وعشرين سنة/ هو/ رجل يعرف كيف يحب/ ويعرف من يحب”.

إن نزار قباني عرى المجتمع الشرقي، وبحث في جزئيات حياة المرأة، وقد جمع الملوك والرؤساء العرب ووبخهم جملة وتفصيلاَ، وبعد نكسة حزيران، مال إلى العمل الفدائي، وقد غنت له أم كلثوم “الآن أصبح عندي بندقية” ليظل علماَ لا ينازع على القصيدة.

كذلك زار مدينة حلب الشاعر محمود درويش، واجتمع مع الناس الذين اجتمعوا من كل المحافظات، وأيضاَ جلسوا على المدرجات في الصالة الرياضية وعلى الأرض، وقال عن نزار قباني: “نزار قباني كان فوق التجارب السياسية والحزبية، كان يخاطب مراهقتنا، وقد علمني أن الشعر ليس له هيبة، يمكن أن تشتغل على قصيدة من بنطال، ومفرداته ليست مستعصية، وأن تعيشه، يمكن أن تحكيه ببساطة تامة”، وكذلك مظفر النواب الذي أورثه تلك النبرة الصريحة الجارحة.

الوطن امرأة معشوقة في شعره، والالتحام بالأرض التحاماَ صوفياَ، فهي ظاهرة شائعة عند الشعراء، ولكن خيال محمود درويش الغنائي المترف الذي يصل إلى درجات التخييل المدهش، أحياناَ يجاوز جميع العبارات الجاهزة السهلة في الشعر الوطني، ليجعل لشعره جاذبية خاصة، إنه بسبب إيقاعات شعره المنسابة وصوره الشفافة ولهجته الأليفة الأنيسة ودفئه وحماسته المخلصة، وفوق كلَ شيء بسبب لغته، واستخدامه للغة الحياة اليومية، يعتبر أكثر الشعراء الفلسطينيين تميزاَ.

لقد اتسعت الدائرة الإيحائية الرمزية، وخفت الصوت الخطابي المباشر لديه، ورسخت خصوصيته الفنية، إن القصيدة عنده هي محاولة للقبض على الحلم، لقد نقل القصيدة من الغنائية إلى تمازج بين الغنائية والذهنية، حيث أخذت الأزمنة تندمج والصور تتكثف والأصوات تتكاثر، فاقتربت لغة الشعر من لغة الحلم، ولكن اللغة تظل عنده تعري الدلالة وتدفع بالخطاب الشعري إلى مستوى الإفضاء المباشر، يتناثر الحدث ويتفتت، وكذلك الزمان والمكان والشخصية في إطار غير متجانس يقوم على التضاد ويعمل على إزاحة الحدث وتغيبه.
والآن ما الذي يجعل هذين الشاعرين متربعين على قمة القصيدة، فيأتيهما الناس من كلَ مكان، وشعراء كثر يذهبون إلى الأمسيات الشعرية، فيجدون المقاعد فارغة، ولكنهم يصرون على إلقاء شعرهم عليها، يبدؤون بالديوان الأول فالثاني فالثالث، ويتخيلون أن المقاعد الفارغة تصفق لهم، فينتشون ويتابعون.

هنا شاعر عرف كيف يتربَع على مجد القصيدة، وهناك شاعر بائس لايستكيل الناس بشعره، إن مأساتنا أن صراخنا أطول من قاماتنا، وحيث “الأماسي الشعرية هي المرايا التي يرى فيها الشعراء وجوههم”.