دراساتصحيفة البعث

ما بعد الإنسان وما بعد الإنسانية… وسؤال الـ (الوجود) العربيّ!

 

أدى التقدم العلميّ في علوم الوراثة، والأعصاب، والذكاء الاصطناعيّ، والنانو تكنولوجيّ، إلى نهاية النظرة التقليدية للإنسان، ككائنٍ بيولوجيٍّ (مكتملٍ ونهائيّ)؛ وأكثر الحركات الفكرية التي تتعامل مع هذه المتغيرات، هما حركتا أو اتجاها ما بعد الإنسان (Post human)، وما بعد الإنسانية (Post humanism)، ورغم التشابه الظاهري بين المفهومين إلّا أنّهما مختلفان بدرجةٍ كبيرةٍ، ففي حين أنّ ما بعد الإنسانية، كمفهوم،ٍ يُعيد النظر في معنى أن تكون إنساناً قيمياً وأخلاقياً، فإنّ ما بعد الإنسان، كحركةٍ سياسيةٍ فكرية، تشير إلى نظرية “التعزيز البشري” (“Human 2.0”) بمعنى: تعزيز حالتنا البيولوجية والمعرفية بأنظمةٍ ذكيةٍ توسّع حدود قدراتنا الإدراكية والمعرفية، وتتيح لنا أداءً أعلى من الأداء الطبيعيّ للإنسان.

طبعاً يعالج كلا المفهومين حالة (ما بعد الإنسان) في العصر التكنولوجي، لذلك إنّ حركة ما بعد الإنسان هيّ من قادت إلى ظهور فلسفة ما بعد الإنسانية في أحد وجوه هذه الفلسفة، لأنه لا يمكن فقط اختصارها بما بعد الإنسان المعزز، فأحد الاتجاهات الأكثر أهمية لفلسفة ما بعد الإنسانية كونها ثورةً على مفهوم الإنسانية ذاته… لأنّ مفهوم “الإنسانية” لم ينشأ متوازناً بل كان منحازاً لمركزية العقل الأوربي – حين نشوئه في عصر النهضة – (الذي بُني على مقولة عندما نقول “إنسان”، فإننا لا نعني حقًا جميع البشر)، لذلك إنّ ما بعد الإنسانية هيّ محاولةٌ لإعادة الإنسانية إلى جميع البشر، أو على الأقل تجريدها من حصرية الاحتكار الغربي، ويمثّلها اتجاه ما بعد الإنسانية النقدية، وفي جانب أخر لا يقلّ أهمية عن الأول وربما هو السائد في اتجاهات ما بعد الإنسانية، فإنّ ما بعد الإنسانية تشمل فلسفة ما بعد الإنسان المعزز أيضاً.

المشترك بين هذه الاتجاهات هو محاولة عتق الكائن الإنساني من إكراهات الوجود البشري (حدوده)، والتي هيّ مجموعةٌ من الأفكار والمعارف والمشاعر والخبرات والأنشطة التي يمكن للكائنات البشرية الوصول إليها، والتي لا تشكل سوى جزءٍ صغيرٍ مما هو ممكن، لذلك هو اتجاهٌ ما بعد وجوديّ، أكثر منه عدميّ، لأنّ هنالك من يعدّ ما بعد الإنسانية حركةً أو مُنتجاً ما بعد حداثي استقت نظريتها من نسبية الحقيقة والعقل، وإذا كان هذا الكلام صحيحاً فلا يجوز عدّها فلسفةً عدميةً بقدر كونها ما بعد وجوديةً لم تُحدد بعد، لأن طبيعتنا البشرية الحالية لا تسمح بهذا الأفق ضمن معارفنا الراهنة.

ولفهمٍ أعمق، لننتبه إلى المقاربة التالية، فبنفس الطريقة التي يفتقر بها الكائن غير البشريّ إلى الوسائل المعرفية لفهم ما يعنيه أن يكون الإنسان ما هو عليه…، نحن البشر الراهن ون قد تفتقر أيضاً إلى القدرة على تكوين (فهمٍ) حدسيّ واقعيّ لما قد يكون عليه (ما بعد الإنسان) من حيث الأفكار والاهتمامات والتطلعات والعلاقات الاجتماعية التي قد تكون لدى هؤلاء البشر، والكلام هنا ليس على الصورة الآدمية بل عن البنية العقلية الإدراكية والتطور البيولوجي المحتمل، لذلك المحاولة هناهي لتكوين رؤيةٍ (تأمليةٍ) لما قد يكون عليه (الإنسان المعزز) وإشكالياته الاجتماعية والثقافية.

طبعاً السؤال المركزيّ في فهم اتجاهات ما بعد الإنسان، يتمحور حول (الإنسان الأخير) بمعنى: هل الإنسان الراهن بهيئته ومداركه وطبيعته البيولوجية، هو نهاية التطور البشري؟ أم أنّ هنالك أفقٌ جديدٌ لهذا التطور؟ والجواب طبعاً تقدمه اتجاهات ما بعد الإنسان، من خلال طرح فكرة إنسان (سايبرنيتيكوس)، إذ تتنبأ اتجاهات ما بعد الإنسانية بعالم تصبح فيه التقنيات الرقمية والسيبرانية والجينية والطبية الحيوية أدوات المرحلة التالية من التطور البشري، حيث سيتحول الإنسان العاقل (هومو سابينس) (Homo Sapiens) الإنسان الحاليّ، إلى إنسان (سايبرنيتيكوس أو تكنوسابينس)، إنسان خارق، يعيد بناء فهم معنى الوجود البشري.

وحتى لا يتصور البعض أنّ هذه الطروحات هيّ مستقبليةٌ وتأمليةٌ بعيدةٌ عن الواقع الراهن، تجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أنّ القيمة السوقية لأبحاث وإجراءات التعزيز البشري ستبلغ حوالي 400 مليار دولار بحلول عام 2027، مقارنة بـ 90 مليار (2020)، كما تشهد الأوساط العلمية والاقتصادية حراكاً ملحوظاً بهذا الاتجاه، كالمؤتمر الذي سيعقد بمدينة ميونخ الألمانية قريباً – بعد تأجيله الشهر الفائت – حول التعزيز الإنسانيّ (A Human s 20 22)، والذي سيناقش الزيادة الجسدية والمعرفية والإدراكية للبشر من خلال التقنيات الرقمية، والتحرك نحو التقنيات التي تعزز القدرات البشرية بما يتجاوز الفرد وستكون لها القدرة على التأثير على النطاق المجتمعي)، ومثل هذه المؤتمرات تطرح بإلحاحٍ فكرة (الإنسان الانتقالي Transitional Human)، والذي ما زال مستمراً بكينونة الإنسانية وقيمها وحدودها الأخلاقية، ولكنه بدأ بالتحول إلى الإنسان المعزز، والتي ستنتهي في مرحلة ما ليست بعيدة بإنسان (تكنوسابينس) Techno Sapiens، لذلك لابدّ من الاستعجال بطرح الأسئلة النقدية لطبيعة فلسفة ما بعد الإنسانية، فعالم ما بعد الإنسانية هو فلسفةٌ ما بعد حداثية، استقت نظريتها من نسبية الحقيقة والأخلاق والعقل…

لذلك السؤال الأخلاقيّ الأهم في عالم ما بعد الإنسانية هو: من أين يستمد “الإنسان المعزز” أخلاقياته…؟ وما مصير الأخلاق ذاتها، فالإنسان المعزز والمنعتق من هواجس المرض والشيخوخة، وربما يحلم بتجاوز “مخاوف الموت”، سيفسح المجال لتطرف العقلانية الأداتية المادية، وإطلاق العنان لنزواته وهواجسه وطموحاته، ومع تطرف العلمانية المادية بحكم هذا المنطق، ستعيد مرحلة “الإنسان المعزز” الاستقطاب في العلاقة بين الدين والأسطورة، الدين والمادية، ويخلق كنتيجةٍ لذلك، تيارات دينية متشددة على اختلاف الأديان، وعلمانية إلحادية متشددة على اختلاف الاتجاهات.

ولكن السؤال الأكثر أهمية بالنسبة لي، هو سؤال الـ (نحن) في مرحلة ما بعد الإنسان، فاتجاه المجتمعات الغربية وبعض الشرقية عموماً لفكرة التعزيز البشري، تطرح سؤالاً مهماً عن واقعنا في المجتمعات العربية، هل سننتقل كمجتمعاتٍ عربيةٍ إلى فكرة التعزيز الرقميّ البيولوجيّ أم لا؟ هل نمتلك الأدوات؟ هل ثقافتنا وبيئتنا تسمح لنا بذلك؟ وفي حال كان الجواب: “لا تسمح لا الإمكانيات، ولا الثقافة، بذلك، سنكون أمام حقيقةٍ تاريخيةٍ تُشكّل ثنائيةً غير متماثلة (إنسانٌ عربيٌّ كلاسيكيّ، وإنسانٌ غربيّ معزز)، وبالأصل هذا الإنسان العربي الكلاسيكي متأخرٌ معرفياُ كثقافة عن الإنسان الغربي الذي هو في طور الانتقال الإنساني المعزز، وبالتالي حجم فجوة التأخر التاريخي ستزداد، والهوة المعرفية ستتوسع؛ وفي عالم العولمة الرابعة وما بعدها، ربما سنتحول لمجرد أدواتٍ للإنتاج واستخراج الموارد الطبيعية في حين الإنسان المعزز الغربي سيكتفي بمهمة التفكير والتخطيط والإدارة. بمعنى أخر قد نكون أمام احتماليتين: الاحتمال الأولى هو حقبةٌ استعماريةٌ تمارس علينا عبودية معاصرة، من منطق التفوق المعرفيّ الإدراكيّ، والاحتمال الثاني الانغلاق الحضاري، والذي سيجعلنا نعيش على الكوكب لا معه، صحيح أنه سيحمينا من هوّات ما بعد الأخلاق، نظراً لكون الأخلاق أحد مكونات الثقافة العربية، ولكنه بذات الوقت قد يعيد طرح الخيارات الماضوية، ويزيد من شرعيتها للحفاظ على الذات والتاريخ والوجود العربي، في مشهد قد يكرر ردّ الفعل العربي على حملة نابليون في نهاية القرن الثامن عشر (1798)، ومن جهةٍ مقابلةٍ، إذا كان الجواب على تلك الأسئلة بأنه: تسمح منظومتنا الثقافية والمادية العربية بذلك، فالأمر سيغدو معقداً أيضاً، فبنية الثقافة العربية تختزن تاريخياً كمّاً كبيراً من الإشكاليات يجب تجاوزها، ويجب إعادة طرح سؤال الأخلاق ومرجعيته في الثقافة العربية ليبدو الإنسان العربي المعزز، منسجماً مع بيئته الثقافية والاجتماعية، لذلك لابدّ من نقاشاتٍ عميقةٍ فكريةٍ دينيةٍ أخلاقيةٍ، لأسئلة المرحلة الانتقالية للإنسانية وموقفنا منها معرفياً وحضارياً، وكيف سنتعامل مع (الآخر) الذي سينتقل إلى مرحلة التعزيز الرقميّ البيولوجيّ دون أخذ رأينا، أو حتى مراعاة ردّة فعلنا، سواءٌ رغبناها أم لم نرغبها، ولكن يجب ألّا نتجاهلها، كما تجاهلنا أسئلة (الحداثة) في عقوٍد خلت، فسوف تصلنا من بواباتٍ كثيرة، وحين إدن نكون قد فتحنا بوابات التغريب المعرفيّ مجدداً.

الدكتور سومر صالح – دكتوراه في العلوم السياسية