دراساتصحيفة البعث

خطاب فرنسي بمثابة “وثيقة”

ترجمة: قسم الدراسات

في اجتماع داخلي مغلق ألقاه بعد مرور شهر على الأزمة الأوكرانية، تناول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأوضاع الحالية في العالم والمتغيرات المحتملة بشأن تراجع القوى الغربية وصعود قوى جديدة. ومادام الخطاب تحدث عن اعادة تشكل القوى فهو بلا شك يعتبر “وثيقة هامة” كونها توضح التصور المستقبلي لدولة عظمى تجاه ما يحدث في العالم، وتنبئ بالأحداث المستقبلية.

أجرى ماكرون تحليلاً عاماً للوضع الدولي الحالي، ومنذ البداية تنهد قائلاً: “الهيمنة الغربية تقترب من نهايتها! وأردف نعم، ينقلب النظام الدولي بطريقة جديدة كلياً، وأنا متأكد من أن هذا غالباً ما يكون اضطراباً خطيراً في تاريخنا، وله عواقب بعيدة المدى في معظم المناطق”.

إنه تغيير للنظام الدولي ، وتكامل جيوسياسي ، وإعادة تنظيم إستراتيجي. نعم ، نحن بحاجة إلى الإعتراف بأن الهيمنة الغربية تقترب من نهايتها. في الماضي كان النظام العالمي يدعم الهيمنة الغربية منذ القرن الثامن عشر، هذه فرنسا مستوحاة من عصر التنوير من القرن الثامن عشر، وهذه بريطانيا من القرن التاسع عشر بقيادة الثورة الاقتصادي، وهذه أمريكا خرجت من القرن العشرين بعد حربين عالميتين. لقد جعلت فرنسا والمملكة المتحدة، وبالتالي الولايات المتحدة، من الغرب عظيماً لمدة 300 عام.

ويؤكد ماكرون خلال حديثه، نحن معتادون على هذه العظمة التي تمنحنا الهيمنة المطلقة على الاقتصاد والسياسة في جميع أنحاء العالم، لكن الأمور تتغير لأن بعض الأزمات تأتي من أخطائنا داخل الغرب، بينما تأتي أزمات أخرى من تحديات الدول الناشئة. داخل الدول الغربية، أدت الخيارات الخاطئة المتنوعة التي اتخذناها في مواجهة الأزمات إلى زعزعة هيمنتنا بعمق، و هذا لم يبدأ فقط مع إدارة ترامب، فقد اتخذ الرؤساء الأمريكيون الآخرون خيارات خاطئة أخرى قبل فترة طويلة من ترامب، مثل سياسة كلينتون تجاه الصين، وسياسة بوش الحربية، وأزمة أوباما المالية العالمية. إن السياسات الخاطئة لهؤلاء القادة الأمريكيين كلها أخطاء أساسية تهز الهيمنة الغربية. ومع ذلك ، من ناحية أخرى ، فقد قللنا إلى حد كبير من شأن القوى الناشئة ليس فقط قبل عامين، ولكن منذ عشر أو عشرين عاماً.

يجب أن نعترف بأن الصين وروسيا قد حققا نجاحاً كبيراً على مر السنين في ظل أنماط القيادة المختلفة، ثم برزت الهند بسرعة كقوة اقتصادية، وفي نفس الوقت ستكون أيضاً قوة سياسية، إذن الصين وروسيا والهند باتوا مقابل الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة، والفرق بين تلك القوى والقوى التقليدية أن الخيال السياسي للقوى الناشئة أقوى بكثير من الغربيين اليوم، وبعد أن يمتلكون القوة الاقتصادية القوية، سينتقلون الى الثقافة. إنهم لا يؤمنون بالسياسة الغربية، لهذا بدأوا في متابعة “ثقافتهم الوطنية”. وعندما تجد هذه الدول الناشئة ثقافتها الوطنية الخاصة بها وتبدأ في تصديقها، فإنها ستتجنب تدريجياً “الثقافة الفلسفية” التي غرستها الهيمنة الغربية داخل العالم في الماضي.

المقصود من الكلام، كما يقول ماكرون، أن نهاية الهيمنة الغربية ليست في التدهور الاقتصادي، ولا حتى في التدهور العسكري، بل هي حقيقة في التدهور الثقافي. بمعنى عندما يتعذر تصدير قيمك إلى البلدان الناشئة ، فهذه بداية تراجعك.

في فرنسا، يتم العمل على زيادة عدم المساواة في الدخل، وهو ما تسبب بغضب الطبقة الوسطى وإحداث تغييرات عميقة في النظام السياسي الفرنسي. منذ القرن التاسع عشر، كانت الحياة الفرنسية في حالة توازن تام، حيث كانت الحرية الشخصية، والديمقراطية، والبرجوازية الثرية هي الحوامل الثلاثية التي توازن سياسات فرنسا، لكن اليوم لم تعد الطبقة الوسطى حجر الزاوية، وبات لديها شكوك أساسية حول الديمقراطية وبالتالي نظام السوق.

في المملكة المتحدة، بات تأثير “الخريف” على الحكومات أكثر وضوحاً، حتى شعار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي  المتمثل بـ “استعادة السيادة” كان في الأساس يرتكز على رغبة البريطانيين بتقرير مصيرهم بأنفسهم، والتخلص من الاتحاد الأوروبي. إنهم يكرهون الاتحاد الأوروبي، ويكرهون السياسة القديمة، ويريدون شيئاً أكثر إبداعاً من الناحية السياسية. لكن في النهاية، لم يفيد البريطانيين شكل الحكم في الماضي ، بل جعل حياتهم أسوأ وأسوأ، وحتى القادة السياسيين على أعلى المستويات لم يدركوا هذا الأمر، لذلك فشلوا.

أما بالنسبة للولايات المتحدة، فعلى الرغم من أن الأمريكيين ينتمون إلى المعسكر الغربي، إلا أنهم بحاجة دائماً إلى معايير إنسانية مختلفة عن أوروبا. إن حساسية الأمريكيين لقضايا المناخ والمساواة والتوازن الاجتماعي لا توجد بنفس الطريقة التي توجد فيها في أوروبا، مما يعني أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل الولايات المتحدة أكبر بكثير مما هي عليه في أوروبا. كما أن هناك فجوة شفافة بين الحضارة الأمريكية والحضارة الأوروبية، وبالتالي على الرغم من أن الولايات المتحدة وأوروبا متطابقتان بعمق، إلا أن الخلافات كانت موجودة دائماً، ومن بين تلك الخلافات مسألة  طرد روسيا من القارة الأوروبية وهو الخطأ الجيوسياسي الأكثر أهمية لأوروبا في القرن الحادي والعشرين.

اضطرابات التكنولوجيا

بالإضافة إلى الاضطرابات الاقتصادية والاضطرابات الجيوسياسية، فإن الاضطراب الرئيسي الثالث الذي نشهده الآن هو بلا شك اضطراب الثورة التكنولوجية، ولعل إحدى مشكلات عولمة الذكاء هي عولمة العاطفة والعنف وحتى الكراهية. لقد جلبت الثورة التكنولوجية تغييرات أنثروبولوجية عميقة، كما خلقت مساحة جديدة، مساحة تتطلب من البشر إعادة فحص القواعد وصياغتها. لم تجلب الثورة التكنولوجية الجديدة اختلالات اقتصادية فحسب، بل جلبت أيضاً التناقضات الطبقية الأنثروبولوجية والتناقضات الأيديولوجية، حيث في نهاية المطاف سيؤدي إلى تمزيق شديد وعدم استقرار لـ “ديمقراطيتنا الفخورة”.

يمكن لجميع الحاضرين هنا رؤية الاضطراب الاقتصادي، والاضطراب الجيوسياسي، واضطراب تكنولوجيا المعلومات، والاضطراب الديمقراطي. كل هذه الاضطرابات تحدث في نفس الوقت، ولكن ماذا نفعل؟ ماذا علينا أن نفعل الآن؟ هل سنستمر في كوننا مشاهدين، أو معلقين ، أو نتحمل المسؤوليات التي يتعين علينا تحملها؟ ولكن هناك شيء واحد مؤكد، إذا فقدنا جميعاً خيالنا السياسي وتركنا عادات العقود الماضية أو حتى القرون تحدد استراتيجياتنا، فإننا سوف “نفقد السيطرة”، وبعد “الخروج عن السيطرة”، فإن ما ينتظرنا هو الاختفاء، ستتلاشى الحضارة، وتتلاشى أوروبا ، وتختفي معها لحظة الهيمنة الغربية.