حنين الرائحة
سلوى عباس
الكتابة سكنٌ للذات، حارس لها من الضياع، ترميم للفناء بعد الموت. وشغفاً بالكتابة التي اعتدت عليها لسنوات أربعين وحتى الآن يقودني حنيني إلى ماضي الصحافة والكتابة الصحفية، حيث يقضّ روحي اشتياقي إلى قلم الحبر الذي أصبح يتعثر في يدي، وقد اختطفت مفاتيح “الكيبورد” التي تتربع أحرف الأبجدية على سطحه أصابعي وجعلت كتابتي على الورق متعثرة، فكم أشتاق أن أركن إلى أوراقي حيث يشرد قلمي في صفاء الورق يعكر نقاءه البارد، ويعطي للون الحبر قيمته.. تحرك كلماتي استكانة الصفحات حيث يمتعني أن أرى نفسي في كنف انثناءة الورق، متمدّدة في حنايا الحروف، وسابحة بين النقط، فالكتابة الإلكترونية قتلتني ببرودها رغم كل التسهيلات التي تقدمها لي ولغيري من الكتاب.
طبعاً أنا لا أنادي بالماضي ولست من أنصاره والقول إن الذين سبقونا أفضل، ولكن أبحث عن الماضي لاكتشاف جماليته.. أبحث عن التنوير لأهميته ولأنه عندما يشعّ النور نشعر بالظلمة حول الضوء، وعلى مدار المئة عام الأخيرة ظهرت حالات مستنيرة، قابلتها في زمن الاستهلاك حالات تحمل قيم هذا الزمن في محاولة لترويج ثقافة التسطيح، ولنا في العدد الكبير من ظهور المغنين والشعراء الفاشلين، وتسميات متعدّدة لبرامج فنية وثقافية تحت ستار الإبداع الأدبي والشعري كبرنامج “شاعر المليون” مثلاً، إذ يحضر التساؤل حول ماهية برنامج كهذا؟ هل هو تسويق لشعراء يحاول القائمون على هذا البرنامج وماشابهه تصنيعهم أم ماذا؟ رغم أن الشعر قديماً وحديثاً سيظل شعراً مستنيراً، فالمتنبي مثلاً لم يكن وحيداً في الساحة الشعرية في عصره بل كان حوله الكثير من الشعراء، لكن اسمه بقي على مرّ التاريخ أنموذجاً للشعر الحقيقي.
وفي عودة لفكرة الحنين للصحافة المكتوبة وما واجهته من تحديات لم يكن أولها أزمة الحبر والورق والأوبئة التي اجتاحت العالم وألزمت الناس البقاء في بيوتهم، وليس آخرها الصحافة الإلكترونية حيث لجأت الكثير من الصحف إلى النشر الإلكتروني للتسهيلات التي يحققها بدءاً من الكلفة المادية الأقل، وصولاً إلى التسهيلات التي يمكن أن يحققها للقراء بسبب تعدّد تقنيات الاتصال، وهذه العوامل كلها من تحولات وتبدلات عالمية ليس على صعيد الصحافة المكتوبة فقط بل على صعيد الكتابة بشكل عام، حيث إن وسائط التواصل الاجتماعي تسارع حضورها كمنصات نشر لكل من يعرف الكتابة والقراءة، إضافة لبث ونشر للمحتوى التلفزيوني التقليدي، حتى أنها تكاد أن تزيح وبقوة دور التلفزيون التاريخي في علاقته بالمشاهد، وحيث تنمو وتترسخ عادات وثقافات جمهور الشباب والأطفال المتسلحين بأنماط تعامل مع وسائل الإعلام، وتستقر مع الوقت كتوجهات وأنماط تفاعل راسخة، لها مردودها المالي والاستثماري الضخم، تعمل عليها تطورات صناعة الميديا، وهذه التحديات كانت أكبر وأقوى من أن تستطيع الصحافة الورقية الصمود أمامها، لكن رغم كل ذلك تبقى ذاكرة المحبين للصحافة الورقية والكتاب الورقي محتشدة بالذكريات وملمس الورق ورائحة الحبر، وستبقى رغبة الكثير من الكتّاب كبيرة في رؤية مقالتهم مذيلة باسمهم وتوقيعهم في صحيفة مطبوعة، فالاسم المطبوع لازال يمثل بالنسبة للكاتب جزءاً من تاريخه الإنساني والشخصي وثقافته الذاتية، والتجارب الحية بالنسبة لعشاق الصحافة المطبوعة لا يمكن أن يعوضها عالم افتراضي مهما كانت مغرياته، وهنا يحضرني موقف للروائي غونترغراس الرافض ليس للعالم الافتراضي بل حتى لوجود كمبيوتر في مكتبه، مؤكداً أن من لديه خمسون صديقاً على تويتر أو غيره من فضاءات الوهم التي اخترعها صنّاع الميديا الجديدة، فهذا يعني أن لا صديق له، وبالمقابل أيضاً هناك من يحنّ للصحافة الورقية ويرى أن الصحافة الإلكترونية أشبه بهذه الصداقات الافتراضية التي لا تعوّض الصداقات الحقيقية.