دراساتصحيفة البعث

ماكرون بين “إغواء اليسار” والفخ الذي نصبه لنفسه

هيفاء علي

أظهر آخر استطلاع للرأي أن غالبية النشطاء المسجلين من أنصار مرشح أقصى اليسار، جان لوك ميلانشون، سيمتنعون عن التصويت أو يضعون بطاقات بيضاء في صندوق الاقتراع خلال جولة الإعادة لانتخابات الرئاسة الفرنسية بين الرئيس إيمانويل ماكرون ومنافسته مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن التي ستجري يوم 24 نيسان الجاري.

وقد أفضت الدورة الأولى من التصويت هذا العام إلى تكرار المعركة نفسها التي شهدتها البلاد في انتخابات عام 2017، لكن ماكرون يواجه تحدياً أشد ضراوة هذه المرة، مع سعي الجانبين لاستمالة أولئك الذين صوتوا لـ ميلانشون الذي حلّ ثالثاً في الدورة الأولى التي أجريت يوم العاشر من نيسان الحالي بنحو 22 بالمئة من الأصوات، خاصة وأن ميلانشون دعا أنصاره لعدم التصويت لـ مارين لوبن لكنه أحجم عن دعوتهم لمنح أصواتهم لـ ماكرون، وقال إن حزبه سيجري مناقشة عامة للمساعدة في توجيه أولئك الذين دعموه.

وسوف يتعيّن على ماكرون إقناع الناخبين الذين لا ينتمون لمعسكره بالتصويت له من أجل البقاء في الإليزيه. والناخبون الرئيسيون الذين سيستهدفهم هم من يمثلون نسبة 22 بالمئة، والذين صوتوا لمصلحة جان لوك ميلانشون في الدورة الأولى، وبحسب المراقبين الفرنسيين، فإن هذه المهمة ليست سهلة بل بالغة الصعوبة لجهة أن منافسته لوبن تحاول تطبيق استراتيجية تصويت “مناهض لماكرون”.

في نهاية الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية عام 2017، كان ماكرون قد تأهل للدورة الثانية ضد مارين لوبن بفارق صغير بلغ 3% (24% مقابل 21%)، وهذه المرة يبلغ الفارق بين المرشحين نحو خمس نقاط. ومع ذلك، من المحتمل أن تكون الفجوة بينهما في الدورة الثانية أكثر ضيقاً مما كانت عليه قبل خمس سنوات، وهذا ما عبّرت عنه استطلاعات الرأي التي أجريت الأحد الماضي، حيث تراوحت نوايا التصويت بين 51% و54% لمصلحة ماكرون، مقارنة بنحو 46% و49% لمنافسته اليمينية المتطرفة، ويعود ذلك للاحتياطي الكبير من الأصوات لمصلحة مرشحة “التجمع الوطني”.

وبحسب المحللين الفرنسيين، فإن احتياطيات الأصوات التي يمتلكها ماكرون منخفضة للغاية، فالنتائج التي حققها الحزب الاشتراكي (1,74%) وحزب “الجمهوريون” (4,78%) تبيّن أن جزءاً مهماً من ناخبيهما قد صوتوا بالفعل “تصويتاً مجدياً”، فالذين يميلون منهم بالفعل إلى ماكرون صوتوا لمصلحته في الدورة الأولى. وإذا كان بوسع ماكرون الاعتماد الكامل على ناخبي يانيك جادو (4,63%) وفابيان روسيل 2,28% ولاسيما بعد دعوتهما إلى عدم التصويت لليمين المتطرف، فإن هذا سيمثل عدداً قليلاً جداً من الأصوات، حتى ولو تلقى دعم كبار زعماء اليمين مثلما فعل الرئيس السابق نيكولا ساركوزي.

بالمقابل، من المتوقع أن تستفيد مارين لوبن في الدورة الثانية من نسبة 7%، وهي مجموع الأصوات التي أدلى بها ناخبو منافسها اليميني المتطرف إيريك زمور، إضافة لنسبة 2% من أصوات المنافس الآخر نيكولا ديبون- إينيان، وهما المرشحان اللذان أشارا صراحة إلى أنهما سيصوتان لمصلحتها في 24 نيسان.

وبالتالي، فإن التحدي الذي يواجهه ماكرون هو المهمة العسيرة المتمثلة في إقناع نسبة 22% من الناخبين الذين صوّتوا لـ ميلانشون، حيث تظهر التوقعات المختلفة أن ثلث ناخبي حزب “فرنسا الأبية” سيصوتون في الدورة الثانية لـ ماكرون والثلث الثاني لـ لوبن والثلث الأخير سيمتنع عن التصويت، على الرغم من دعوة ميلانشون أنصاره ألا يعطوا صوتاً واحداً لليمين المتطرف. لذلك سيكون موقف ميلانشون الشخصي خلال الأيام القادمة حاسماً في تحديد الرئيس القادم. وبحسب المحللين الفرنسيين، فإن ما ساعد ماكرون على اعتلاء قمة التصويت في الدورة الأولى كان بلا شك ناخبو اليمين. أما الآن فعليه أن يقرّر إن كان سيتخلى أم لا، ولو جزئياً، عن بعض من اقتراحاته -ولاسيما إصلاح نظام التقاعد- من أجل استمالة ناخبي ميلانشون واستقطاب أصواتهم لمصلحته.

هذا وثمة احتياطي آخر مهمّ من الأصوات وهو نسبة 26% من الممتنعين عن التصويت في الدورة الأولى، والذين سيتعيّن عليهم أن يقرروا إما الذهاب إلى صناديق الاقتراع في الدورة الثانية أو التمسّك بموقفهم. ولكن من الواضح أن عملية “إغواء” ناخبي اليسار ستكون عسيرة على الرئيس المنتهية ولايته، إذ من المحتمل أن يقع ماكرون في الفخ الذي نصبه بنفسه، بحسب المحللين، فطوال السنوات الخمس الماضية أراد ماكرون، باتباعه سياسة مغرقة في اليمينية، أن يجعل من لوبن منافسته الرئيسية. وهو ما كلفه الكثير من الانتقادات العنيفة من معسكر اليسار، لذا ستكون مهمته في تغيير آرائهم تجاه لوبان خلال الأيام القادمة غاية في الصعوبة، ولاسيما مع تراكم الحقد والغضب الاجتماعي والسياسي تجاهه.

وفي ظل هذا الوضع، قد يكون من المحتمل جداً أن يتخلّى عنه ناخبو “أنصار الجمهورية” الذين يملكون مفاتيح نصره بأيديهم، وأن يحدث عكس المتوقع ويتكوّن نوع من التحالف المضاد له يقوم على مشاعر الاستياء تجاه سياساته.

ومن هنا تتبلور استراتيجية “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، القائمة على دعوة الناخبين للتصويت ضد ماكرون، وهي الاستراتيجية التي يؤكدها جوردان بارديلا، رئيس حزب “التجمع الوطني” بالإنابة، بقوله: “إن الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية ستكون لمناهضي ماكرون.. لا يجب التقليل من أهمية احتياطي أصوات أنصار اليسار أو أنصار زمور”.

ولإدراكها ذلك، لم توجّه مارين لوبان كلمة واحدة لمنافسها زمور، لكنها من جهة أخرى بدأت الترويج لنفسها بوصفها رئيسة لكل الفرنسيين، وداعية كلّ من لم يصوّت لـ ماكرون إلى الالتحاق بها من أجل إحداث التبدل الكبير الذي تحتاجه فرنسا، على حدّ تعبيرها.

بالتوازي مع ذلك، يراهن ماكرون على استراتيجية أخرى من خلال التذكير الدائم بأن النصر ليس في متناول اليد بعد، وأيضاً تشويه سمعة برنامج منافسته قدر الإمكان. وهذا بالضبط ما أكد عليه عدة مرات في خطابه الأخير قبل أيام بقوله: “لا شيء مضموناً، وما أريد أن أقنع به الناخبين في الأيام المقبلة هو أن مشروعنا يستجيب بقوة أكبر بكثير من مشروع اليمين المتطرف”.

في الدورة الأولى، كسبت لوبن الرهان المتعلق بالمصداقية، وذلك بشأن مواضيع معينة، ولاسيما القوة الشرائية للفرنسيين، والآن تظهر الاستطلاعات أنها تعتبر المرشحة الأكثر مصداقية، في حين أن خطة ماكرون تقوم بالدرجة الأولى على محاولة إعادة لوبن إلى معسكر الشيطنة واللعب على قضية المصداقية هذه.