بين الموظف والممتهن!
علي بلال قاسم
عندما يحسد الموظف ذاك العامل أو صاحب المهنة على أجره اليومي، ويغار من مردود بائع القهوة ومالك بسطة على قارعة الرصيف، يعني أن زمن الحلم بمقعد في الوظيفة العامة بات يتلاشى مع قدرة أي عمل حرّ أو مهنة على تحصيل مبلغ يفوق أعلى مرتب “مسقف” بأضعاف مضاعفة، في زمن أصبحت ظروف “ابن الراتب” الحكومي في أسوأ حالاته معيشياً بالقياس إلى شريحة “الممتهنين” الذين تدرّجت أجورهم خلال فترة السنوات الأخيرة بتصاعد سريع يواكب حركة الأسعار، مقابل الارتفاع البطيء لذوي الرواتب والمعاشات حتى مع التحسّن الذي طرأ عليه بالقياس إلى ما سبق، ولكن بالمقارنة مع أسعار الخدمات والسلع تبدو الهشاشة سيدة الموقف لأجر يومي وشهري لا يقوى على الصمود لأيام بوجه غول الأسعار.
في سرديات تحولات المشهد الحياتي لمعيشة الموظف العام، لا تخفى حالة النزوع نحو الأعمال والأشغال الخاصة، وأمسى العزوف ولو قليلاً عن اللهاث وراء وظيفة المؤسّسات تطوراً ليس مفاجئاً أمام وقائع الحياة الاقتصادية الضاغطة من جهة، ومبرراً أمام جملة ما اشتغلت عليه التوجّهات والسياسات الاستراتيجية الحكومية من توطين العمل الحرّ وضخ المزيد من الدعم والترويج والتسويق والاهتمام بالمشاريع والأعمال الصغيرة والمتوسطة، قانونياً وتنفيذياً وتمويلياً، وبالتالي ما اجتهدت عليه المؤسّسة الرسمية بالتحالف مع المنظمات والجمعيات الأهلية ووضعت له الجداول والخرائط الزمنية ويحتاج وقتاً في نتائجه، تكفلت الظروف والتطورات الاقتصادية الصعبة في تحقيق جزء منه.
هذا الحال ولَّد لدى فئة مهمّة من طالبي العمل من الشباب الخريجين وغيرهم نمطاً مختلفاً من التفكير مفاده العمل الخاص أو الحر، كنهج أكثر مرونة وتحقيقاً للطموحات والأهداف، مع ضمانة الحصول على مردود ومرتب وأجر أفضل بكثير مما تؤتيه الوظيفة الحكومية، في زمن لا يتوانى الكثير من العاملين، وتحديداً أولئك الذين وصلوا إلى “سقف الراتب” عن التفكير وبشكل جديّ بتقديم استقالاتهم “تقاعد مبكر”، وهذا ما حصل مع الكثيرين ممن أيقنوا أن ثمّة نشاطات وأعمالاً خارج عباءة الدولة تدرّ عائداً مقبولاً وفي بعضه محترماً، وهذا ما ينطبق على المدن والأرياف، إذ لطالما وجد العديد من أبناء الريف السوري أن في تلك القرى والضيع أعمالاً زراعية وحيوانية وإنتاجية وخدمية مهمة تقدم منتجاً مطلوباً في أسواق متعطشة وقليلة التنافسية كما المدن وزحامها.
هذا الواقع لا يحتاج كثيراً لدلائل إثبات، فما تشهده مناشط الحياة العملية يشي بأن الموظف طرد من جنة البحبوحة واليسر الذي تمتّع به في عقود مضت عندما كانت الوظيفة مع ما يسترها من قروض وجمعيات وسلف بقادرة على شراء منزل أو امتلاك سيارة، واليوم انقلبت الآية لمصلحة أية مهنة أو صنعة أو حتى العمل بالأجر اليومي كعامل يومي عادي لا يقبل على أي خدمة تُقضى بساعة أو ساعتين بأقل من 10 آلاف ليرة وآخر يعمل خمس ساعات باليوم بأجر 15 ألف ليرة.
بكل الأحوال، ثمّة اشتغال عام ومنذ سنوات على أن تكون الأتمتة حاضرة وبقوة في مفاصل عمل المؤسسات ومراكز خدمة المواطن، ومن المعروف أن هذا الإنجاز يخفض من دور العنصر البشري ويختصر الكمّ لحساب النوع في الأداء الإداري والإنتاجي، وبناءً عليه لا ضير في أن يكون للأتمتة والعمل الإلكتروني فعله، ولتخفيف وطأة وزر عديد جيش العمال الحكوميين وسواد البطالة المقنعة، حضوره الضروري، لتكون كل القطاعات والمناشط الحكومية والأهلية متكافئة وحاضرة في تأمين وتفريخ فرص العمل على أيدي الأفراد والشركات العائلية والمجتمعية، أكثر من حمل الدولة الثقيل على الموازنات ووجوه التنمية المنشودة.