لماذا.. نبكي!
حسن حميد
ها هو خبر لئيم تنشره المواقع الإسرائيلية، بعد رحيل شهدائنا البررة، في الأيام الأخيرة، يقول بشماتة: الفلسطينيون يبكون في الصّباح والمساء! وينشر صور الأمهات والأخوة والآباء وقد غسلت الدموع وجوههم في القرى والمدن والمخيمات. أجل، نحن بشر ولنا مشاعرنا، ودمعتنا سخية تنحدر عندما نفقد الأعزاء، وعندما يحيط بنا الظلم، وعندما تسوّرنا قوة المحتل الغاشم الأعمى.
نبكي ونحن نرى أمّ أحمد مناصرة الطفل الفلسطيني الذي أُخذ من فوق مقاعد الدراسة، في مدرسته الابتدائية، وهو في الثانية عشرة من عمره، لأنه مقاوم، نبكي لأننا نراها تبكي من وراء زجاج وهي ترى ابنها الطفل محاطاً بعشرات الجنود الإسرائيليين الذين يقتادونه إلى المحاكمة. فتحكم عليه المحكمة بالسجن 20 سنة لأنه واجه الجيش الإسرائيلي، نبكي لبكاء أمّه التي لم يسمح لها أن تقابله، أن تعانقه، أن تشمّه، مخافة أن تعزّز روح الكبرياء الوطنية لديه.
ونبكي حين نرى مآل رعد حازم شهيداً في بوابة مسجد قديم في يافا بعد أن صلّى صلاة الفجر، ونبكي حين نرى حقلاً من الورد تدوسه الدبابات الإسرائيلية من أجل مناورة عسكرية، ونبكي حين نرى أشجار الزيتون التي جلس في ظلالها سيدنا المسيح، عليه السلام، واختبأ في جذوعها من مطارديه آنذاك، وقد اقتلعتها البلدوزرات الإسرائيلية، لا لشيء، وإنما لأنها رمز السلام الذي آمنا به، ولأن الفلسطينيين يصنعون من أغصانها صلبان القداسة!
ونبكي حين نسمع أن الأمهات الفلسطينيات يلدن في المعتقلات والسجون الإسرائيلية، بعد أن اقتدن إليها بالضرب والركل والشتائم وهن حاملات. ونبكي حين نرى غادة بساتين، تُقتل على حاجز إسرائيلي يحتشد فيه عشرات الجنود المدججين بالسلاح، ومن مسافة (صفر)، بلا ذنب، بلا سبب، بلا ذريعة.. وهي أم أرملة تربي ستة أولاد كبيرهم في المدرسة الإعدادية وصغيرهم ابن سنتين.
ونبكي ليس لأن البكاء ثقافة، بل لأن البكاء تعبير عن المشاعر حين تبدو المواجهة ظالمة وموحشة ما بين الضحية والجلاد، فلا حوار مع من يشهر السلاح عليك ويطلق، ولا حوار ما بين الجثة الهامدة، والقاتل الهائج مثل ثور، ولا حوار ما بين حقّ القوة، وقوة الحقّ، ولا حوار مع جهول يحمل سلاحاً أعمى، توجّهه أوامر عمياء.
أم أحمد مناصرة تبكي لأن القوة اقتلعت أحمد من أسرته ومدرسته وأصدقائه وحضنها، وعلى الإسرائيلي أن يتفكر ويعي كيف ستربي أم أحمد أولادها الآخرين، وما الذي ستقوله لهم بعد كل مسرحية تافهة لمحاكمته؛ أحمد مناصرة واجه المحتل الإسرائيلي وعمره اثنتا عشرة سنة، لأنه يعرف إلى أيّ بلاد ينتمي، وإلى أيّ أجداد ينتسب، وهذا (هذا بالضبط) ما على الإسرائيلي أن يعيه كي يعرف أي مستقبل شائن مرير ينتظره.
ونبكي ونحن نرى رعد حازم يُقتل بدم بارد، وعلى مبعدة متر أو أقل، وفي عتبة المسجد اليافاوي، وهو شاب ابن ثلاثين سنة، وبعد أن عاش ليلة كاملةً في يافا، ورأى كيف يعربد شبان إسرائيل داخل الصّالات البلورية ووسط الأضواء الرّاهجة، والشبان الفلسطينيون يدرسون في الجامعات ويتخرجون فيها، ولا آفاق راشدة لهم.
ونبكي حقول الورد لأنها ترمز لحضارتنا، ولأن عماء القوة لا يميّز الورد من الشوك، أما أشجار الزيتون المعمّرة التي تملأ الفضاء الفلسطيني بحضورها، فنحن نبكيها لأنها حمت سيدنا المسيح، عليه السلام، وحنت عليه، وأخفته عن عيون مطارديه وطالبي دمه.
هذا البكاء، وإن علا وشاع، ليس ضعفاً أبداً، لأنه تعبير الكبرياء عن محبة البلاد العزيزة، ولأنه المعنى الأوفى عما نتحلى به من أبوة وطنية آبدة.
Hasanhamid55@yahoo.com