ثقافةصحيفة البعث

بعد أن كانت من سمات شهر رمضان.. الأعمال الدرامية التاريخية غائبة

بيّن الكاتبُ المصري محمد عمارة في كتابه (الدراما التاريخية وتحديات الواقع المعاصر) أن “دور الدراما التاريخية أخطر وأفعل في استدعاء الوعي بسننِ التاريخ والقوانين التي حكمت معاركه وصراعاته، وهي الأقدر على توظيف الدروس والعِبر والعظات التي تستدعيها من صفحات التاريخ في خدمة قضايا ومشكلات وتحديات الواقع المعاصر”، ومع هذا بدأت تغيب الأعمال التاريخية شيئاً فشيئاً عن درامانا في المواسم الرمضانية وخارجها، فعلى الرغم من العدد الكبير للأعمال الدرامية السورية والعربية التي يتابعها اليوم مشاهدو المحطات والمنصات، إلا أن محبي هذه الأعمال يفتقدون إليها اليوم بعد أن كانت من سمات شهر رمضان، ليقتصر وجودها في الموسم الحالي على عمل يتيم هو (فتح الأندلس) للمخرج محمد العنزي، وليعيش عشاق هذه الأعمال اليوم على أمجاد أعمالٍ تاريخية مهمة قدمها عراب الأعمال التاريخية المخرج الراحل حاتم علي، مثل (الزير سالم)، (صقر قريش)، (ربيع قرطبة)، (ملوك الطوائف)، (صلاح الدين الأيوبي)، (الملك فاروق)، (عمر). وقد اعترف الفنان المصري الراحل نور الشريف بتفوق السوريين في الدراما التاريخية عندما قدّم مسلسله (عمرو بن العاص) بإنتاج هزيل، في وقت كانت الدراما السورية تقدم (الثلاثية الأندلسية) و(صلاح الدين) و(الزير سالم) بإنتاجات ضخمة، وقال حينها: “لايمكن أن تقنع المشاهد بفتح مصر بثلاثة جياد”. كما بيّنت المخرجة المصرية إنعام محمد علي في أحد تصريحاتها: “جهات الإنتاج التابعة للدولة هي المنوط بها تقديم الدراما التاريخية من كتابة السيناريو والإنتاج، في حين أن الإنتاج الفردي هو المسيطر على الساحة الفنية الدرامية، وهو لا يفكر بتقديم المسلسلات التاريخية لأنها مكلفة، بالإضافة إلى أن بيع الأعمال العادية يحقق له مكاسب أعلى”.

العمل التاريخي مكلف جداً

وأشار الكاتب خلدون قتلان في تصريح لـ “البعث” إلى أن الدراما التلفزيونية محكومة بسوق عرض وطلب، ومع ظهور الثورة الرقمية ووصول الأعمال العالمية الضخمة إلى الجمهور العربي، وخاصة التاريخي منها، سيبدو أي عمل تاريخي تقدمه درامانا مضحكاً إن لم توفَّر له كل الإمكانيات المطلوبة للظهور بمظهر محترم باعتبار أن العمل التاريخي مكلف جداً، موضحاً أنه في الأعمال التاريخية التاريخ هو البطل، والشخوص هم أشخاص يدورون في فلكه، فيتأثرون بكل أحداث المرحلة التي يتناولها العمل، وتكون مهمة الكاتب خلق شخوص ونسج حكاية تدور أحداثُها في التاريخ المطلوب، فينقلها للمتلقي بشكل يقنعه بأنها عاشت تلك المرحلة، وتكون حدوده عدم التلاعب بحدث حقيقي وتاريخي موثق، إلا إذا كان هناك خلاف تاريخي على حادثة ما، فيعرض وجهةَ نظره لما حدث ويجب أن يصرح بذلك.

التمويل الخارجي

وبيّن الكاتب محمود الجعفوري، وفي رصيده تجربة يتيمة في هذا المجال، أن غياب هذه الأعمال سببه أن معظم الأعمال التاريخية قبل الحرب بسنوات كانت تُنتَج بتمويل خارجيّ كان يختار الموضوع ويحدّد ما يريد، وأن سبب اختيارهم لنا لإنجاز الأعمال التاريخية يعود إلى التجارب الناجحة والسمعة الجيدة التي حققتها تلك الأعمال، لذلك تمّ البناء عليها، ولكن وبسبب الحرب والظروف الاقتصادية التي يمرّ بها العالم غاب التمويل الخارجي القادر على إنجاز مثل هذه الأعمال، فغابت الأعمال التاريخية لأن العمل التاريخي مكلف جداً ويحتاج إلى أن يُعرض على محطات كثيرة.

كاتب متمرّس

ويعترف الفنان يوسف المقبل، وفي رصيده عدد كبير من الأعمال التاريخية، ويشارك حالياً بمسلسل (فتح الأندلس)، أن العمل التاريخي هو الأقرب إلى نفسه لأنه يمنحه فرصة أكبر ليظهر كممثل ولأنه الأقرب إلى المسرح وهو الفن الأقرب إليه، مبيناً أن العمل التاريخي يعتمد على اللغة العربية الفصحى، وهذا يحتاج إلى التمكّن من هذه اللغة، والصعوبة فيه تكمن حين تكون الأدوار المكتوبة مركبة وفيها تقلّبات خلال مسيرة الدور، منوهاً بأن العمل التاريخي يستند أولاً إلى كاتب متمرّس قارئ للتاريخ، وليس المطلوب من العمل التاريخي برأيه أن يُقدّم درساً في التاريخ، فهذه مهمّة الجامعات، فهي المعنيّة بتقديم الدروس، حيث الوضع مختلف في الدراما التلفزيونية التي يجب أن تكون فيها حكاية حاملة للمادة التاريخية، ودون ذلك فإن العمل الدرامي التاريخي سيكون درساً أو محاضرة في التاريخ، وهذا شيء رديء جداً في الدراما. وأكد المقبل أن الأعمال التاريخية تحتاج إلى كاتب يتمتع بموهبة فائقة في الكتابة، ولديه قدرة كبيرة على البحث الطويل لأن التاريخ أساساً غير مُتَّفق عليه: “التاريخ الحاضر يحدث فيه الكثير من الخلافات، فما بالنا إذا أردنا أن نعود إلى التاريخ القديم في فترة الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والعباسية”. من هنا فإن الكاتب في هذه الأعمال يحتاج إلى قراءة الكثير من المراجع ليثبت الحادثة الأقرب إلى العقل والمنطق، ودون ذلك سيكون منحازاً في عمله، أما المخرج الذي يحتاج برأي المقبل في عمله إلى المعرفة والفكر وتقديم وجهات نظر معرفية وجمالية للعالم والحياة فهو في العمل التاريخي يجب أن يكون على دراية واسعة بالتاريخ وقارئ جيد له كي يدير الممثل بمعرفة عالية المستوى، في الوقت الذي يجب أن يكون فيه الممثل في هذه الأعمال ضليعاً باللغة العربية الفصحى التي يعتقد البعض أنها ثقيلة على أذن المُشاهد، مفضّلين أن تكون باللهجة العامية، في حين أن الوقائع تثبت عكس ذلك لأن كلّ الأعمال التاريخية التي قُدّمت كانت تلقى القبول والمتابعة بشكل جيد في كل الدول العربية، خاصّةً وأن اللغة العربية الفصحى تصل إلى الجميع أكثر من اللهجات المحلية، موضحاً أن المشكلة ليست في اللغة العربية الفصحى بل بمن يقولها، فإذا كانت اللغة التي يقولها الممثل غير مفهومة وواضحة وثقيلة على أذن المُشاهد فهذا الأمر يعود إلى من ينطق بها، لذلك هناك ممثلون يتحدثون بها في هذه الأعمال ولا نشعر أنها ثقيلة وصعبة، وقد جعلها سهلة وممتعة وجميلة. وأشار المقبل إلى أن 80% من أعماله هي أعمال تاريخية موثقة أو أعمال تنتمي إلى الفانتازيا: “الجوارح، الكواسر، البواسل، الزير سالم، ملوك الطوائف، ربيع قرطبة، صلاح الدين الأيوبي، صقر قريش، عنترة، خالد بن الوليد” وغيرها، ويشارك حالياً في مسلسل “فتح الأندلس” وما لفت نظره في النص وجود ورشة كتابة مؤلفة من ستة كتّاب تشاركوا لإنجاز النص تحت إشراف المخرج، وقد دققوا كثيراً في الوقائع والشخصيات والأحداث والحالة الدرامية والتطور الدرامي للحدث وعلاقة الشخصيات ببعضها، وهذا أمر مهمّ برأيه، والعمل يتناول قصصاً لها علاقة بالمغامرات وقصص الحب وبعض الجوانب الإنسانية، ويؤدي المقبل فيه شخصية نسيم أحد أفراد كتيبة طارق بن زياد.

عدم توفر النص الموثق

ورأى الفنان رامز عطا الله الذي شارك في عدد من الأعمال التاريخية أن العمل التاريخي غالباً ما يكون باللغة العربية الفصحى التي تغري الممثل الشغوف بها لما لها من موسيقا عذبة في التعبير الدرامي للشخصية، مشيراً إلى أن أهم ما يجب أن يكون متوفراً لدى الممثل في هذه الأعمال هو فنّ الإلقاء والقدرة على التعبير الصادق عن الشخصية، كما يجب أن يكون متدرباً على ركوب الخيل والتعامل مع السيف والأسلحة التي كانت تستخدم عبر العصور التاريخية، إضافة إلى اللياقة البدنية، مبيناً أن أسباب غياب الأعمال التاريخية يعود إلى عدم توفر النص الموثق بتاريخ شخصياته وأحداثه وبنائه وملابسه، وهو مكلف جداً، ويحتاج إلى ميزانية كبيرة، لذلك يهرب المنتجون من إنتاجها، وبالتالي فإن غياب التمويل هو سبب رئيسي لغيابها لأنها تُعدّ الأعلى كلفة بين أنواع الأعمال الدرامية، وغياب التمويل سببه انقطاع التمويل الخارجي من جهة، وعجز الشركات المحلية عن خوض مغامرة الإنتاج التاريخي بسبب مشكلات التوزيع المعروفة، أما المخرج الأقدر برأيه على قيادة مثل هذه الأعمال فعليه البحث في المراجع التاريخية عن وثيقة تضمّ أحداثاً صحيحة.

اختبار حقيقي لموهبة المخرج

ورأى المخرج غزوان قهوجي أن الدراما السورية تميزت سابقاً بنتاجات الدراما التاريخية لتوفر نصوص توثيقية مميزة وإتقان الممثل السوري عموماً للفصحى، بالإضافة لتنوع البيئة الجغرافية السورية وتوفر فنيين متميزين على مستوى الديكور والأزياء -هذا ماكان قبل الحرب– متمنياً أن يتصدى مستقبلاً لإنجاز عمل تاريخي، شريطة ألا يكون خاضعاً لتشويه الحقائق التاريخية، مبيناً أن هذه النوعية من الأعمال تُعدّ اختباراً حقيقياً لموهبة المخرج وثقافته وقدرته على نقل الوثيقة بصرياً وفنياً وهي بيئة صالحة للعمل مع الممثل.

عمل إبداعيّ

وأشار الباحث في التاريخ زهير ناجي إلى أن الدراما التاريخية عمل ايديولوجي يهدف إلى تسليط الضوء على حدث تاريخي لتقريبه من الجمهور وشدّه إليه، موضحاً أن التاريخ يستفيد كثيراً من الدراما التي تقربه من الناشئة بطريقة مغرية، مؤكداً أن ثقافة الجمهور اليوم بالتاريخ غالباً ما تأتي من مشاهداتهم للدراما التاريخية، دون أن ينكر أن في هذا بعض الخطر، لأن الإنتاج في هذه الأعمال غالباً ما يكون من قبل جهات مختلفة النوايا والاتجاهات. ورأى ناجي أن تقديم التاريخ عبر الدراما لا يفقده قيمته: “قيمة النص التاريخي تبقى موجودة في النص”، بل إن الدراما التاريخية تقدم جمالية ليست موجودة في النص التاريخي، وهذا يعتمد برأيه على براعة المخرج في تصوير الأحداث على صعيد الشكل بصرف النظر عن الايديولوجية التي يريد إيصالها للمُشاهد، مبيناً أن الدراما التاريخية عمل إبداعي يتكئ على بعض الأحداث التاريخية، لتقدم في النهاية عملاً فنياً فيه من الخيال الشيء الكثير، وهذا أمر مبرّر برأيه.

أمينة عباس