العقوبات ضد روسيا نسخة من “ثقافة الإلغاء”
ترجمة: عناية ناصر
هناك ظاهرة جديرة بالملاحظة للغاية في الصراع الجيوسياسي بين روسيا وأوكرانيا تتجاوز العقوبات الغربية ضد روسيا على مستوى الحكومات الوطنية، والعديد منها يروج له رأس المال الخاص والمؤسسات متعددة الجنسيات، بدءاً من بطاقات الائتمان الدولية إلى الآيس كريم، ومن حظر أعمال الملحن الروسي بيوتر إيليتش تشايكوفسكي إلى اتحاد القطط الدولي الذي يمنع القطط الروسية من المشاركة في المسابقات.
ولم يكن هذا واقع الحال حتى في ذروة الحرب الباردة، فهذه هي المرة الأولى التي تتجاوز فيها محاولات عزل بلد ما إجراءات الدولة الوطنية، تاركة الدور المهيمن لرأس المال الخاص الكبير، والعواصم المالية وشركات التكنولوجيا. ويمكن من وراء هذه الظاهرة رؤية الروابط القوية بين القوى السياسية والجماعات الاقتصادية في العالم الغربي، وخاصة في مجال الرأي العام. فقد اعتادت وسائل الإعلام أن تكون مجرد “بوق” لصالح جماعات المصالح، لكنها أصبحت اليوم مجموعات رأسمالية بعد دمجها مع منصات الإنترنت.
وفي الوقت الحاضر، تحاول القوة ورأس المال التغلب على روسيا، وقد تكون الظاهرة المذكورة أعلاه اتجاهاً جديداً في السياسة الدولية المستقبلية. على الرغم من أن كلاً من الولايات المتحدة وأوروبا مجتمعات منقسمة، إلا أن هناك عدداً قليلاً من القوى التي تعارض هذا الاتجاه، ليس الحركة اليسارية المتضائلة في الغرب، ولكن القوى اليمينية التي تمثلها زعيمة اليمين المتطرف الفرنسية مارين لوبن، والرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب. لذلك اقتصادياً، ستكون المواجهة بين الغرب وروسيا وحتى مع الصين مكثفة بشكل متزايد. وفي الواقع، بدأت بالفعل الحرب الاقتصادية الباردة الجديدة بين الغرب وروسيا، التي يمكن تسميتها بمعركة من أجل “هيمنة الدولار”، وبهذا المعنى، فهي مشابهة للحرب التجارية التي شنها ترامب ضد الصين قبل خمس سنوات، لكنها أكثر حدة منها.
إن عقوبات الغرب ضد روسيا هي أيضاً نسخة سياسية دولية من “ثقافة الإلغاء” السائدة في الغرب، والتي هي مجرد عبارة أخرى لـ “الرقابة”، ففي المجتمع الغربي في فترة ما بعد الحرب، لم يتم قبول كلمة “رقابة”، وبالتالي يتم إنشاء مصطلح “ثقافة الإلغاء”.
في واقع الأمر، كانت “الرقابة” الغربية على الثقافة والسياسة في أمريكا اللاتينية والعالم العربي موجودة دائماً، لكن في الصراع الروسي الأوكراني، أصبحت هذه الظاهرة أكثر وضوحاً، والفرق الوحيد بين “الإلغاء” و”الرقابة” هو أن “الإلغاء” لا يتم الترويج له من قبل الحكومات فحسب، بل من قبل رأس المال ووسائل الإعلام والمجتمع. والمثال النموذجي هو أن المعلومات التي تنشرها روسيا سيتم حظرها من قبل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ومنصات المعلومات مثل “تويتر”، وكل أولئك الذين لا يعارضون روسيا سيواجهون “ثقافة الإلغاء” في المجتمع الغربي، حيث يعتبر الخطاب الغربي حول الأزمة الأوكرانية سرداً نموذجياً “لإلغاء التاريخ” (العدمية التاريخية). فعلى سبيل المثال حاولوا تشويه صورة روسيا واعتبارها الدولة المعتدية، لكنهم تجاهلوا عمداً الخلفية التاريخية المعقدة للصراع.
يقول الناتو إن هدفه هو الدفاع عن أمن أوروبا، فإذا كان هذا الأمر صحيحاً، كان من الطبيعي عندما انهار الاتحاد السوفييتي، حل الناتو أيضاً. لكن الحقيقة هي العكس تماماً، وبدلاً من ذلك يتوسع الناتو.
لقد تحول الناتو بالكامل من منظمة دفاعية إلى كتلة هجومية، ولن يجلب أي تحالف عسكري الأمن والسلام، وإنما سيشعل الحرب فقط. لذلك، ليس من المفيد للعالم أن تسعى دول مثل فنلندا للانضمام إلى الناتو، ويمكن اعتبار ما يفعله الغرب لروسيا اليوم بمثابة بروفة لما سيفعلونه بالصين في المستقبل.
هل سيؤدي الصراع الروسي الأوكراني إلى حرب عالمية ثالثة؟ الخطر موجود، ولكن الرئيس الأمريكي جو بايدن ليس قائداً قادراً على التعامل مع الوضع الحساس للغاية والمعقد في الوقت الحالي، فقد أظهرت سلسلة ممارساته في العالم تراجعاً في قيادة الولايات المتحدة وتحولاً في القوة العالمية، تماماً كما حدث في الأربعينيات عندما كانت بريطانيا في حالة تدهور والولايات المتحدة كانت في صعود.
إننا الآن في وقت ينهار فيه النظام العالمي وتتفكك جميع القواعد المستندة إلى نظام “برايتون وودز”، وقد كانت اللحظة التي صوتت فيها الجمعية العامة للأمم المتحدة على تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان تجسيداً لهذا الواقع. وقد يستغرق النظام الجديد سنوات لإعادة تأسيسه، لكننا لا أحد يعرف حتى الآن متى وكيف سيبدو.