ثقافةصحيفة البعث

مع التّراث.. منهج وألفاظ وسباق مع الزّمن

كثيرة هي النّدوات والمحاضرات والنّشاطات التي تعنى باللغة العربية تراثها وأصولها الفصيح منها والعامّي والدّخيل، وقليلة هي التي تجذب الجمهور المستهدف ولاسيّما الهواة والشّباب منهم وتحديداً أولئك الذين ينصبون الفاعل ويرفعون المجرور ويتعصّبون لكلمات عامية يستخدمونها على أنّها فصيحة ويدافعون عنها دفاع الأشدّاء تحت شعار أن ما “يحقّ لنا ما لا يحقّ لغيرنا”.. طبعاً، ومثلهم يفعل بعض الأدباء المخضرمين.

يقول الدّكتور الأستاذ مازن مبارك: كثيراً ما يبحث الكاتب عن كلمة تعبّر عمّا يراوده فعلياً ولا يجدها فيبحث عن أخرى قريبة ويلبسها المعنى الذي يريد، وكلما كانت ثروة الكاتب اللغوية أغنى كلّما كان تعبيره أكثر دقّةً ووضوحاً، فالكاتب كالصّياد تحوم الكلمات مترددة في ذهنه ليختار منها ما يراه مناسباً وإنّ مهارته تتجلى في حسن الاختيار.. قد تكون الكلمات في العرف العام مترادفة، لكنّ الصّانع الماهر لا يغفل الفروق الدّلالية الدّقيقة بين ما يسمّى المترادفات، وهذه الدّقة في الفروق ليست ممّا يتطلّبه التّعبير العلمي الدّقيق في التّمييز بين المصطلحات العلمية فحسب ولكنّه ممّا يتطلبه التّعبير اللغوي أيضاً، مضيفاً: ولمّا كانت المعاني خفية في النّفوس مستترة في أذهان أصحابها كان لابدّ من أن تكون الألفاظ دلائل عنها وهي التي قال عنها الجاحظ تجعل الخفي ظاهراً والغائب شاهداً والبعيد قريباً.. وإلباس المعاني ما يناسبها من الألفاظ لا تكفي فيه الفطرة بل لا بدّ من سلامتها والبعد عن التّكلّف لتستطيع أن تختار من الألفاظ ما يناسبها من المعاني فتأتي اللغة بليغةً حلوةً سلسةً معبّرة عمّا استتر وظهر من معاني وأفكار.

وخلال النّدوة التي قدّمها في مجمع اللغة العربية، نوّه مبارك بأنّ أساليب القدماء علّمته أنّ أحدهم ربّما ترك أو سها عن ذكر أمرٍ في موضعه ثمّ تذكّره فذكره وكان موضوع في غير مظنّة وجوده! وكثيراً ما وقفت على أمثلة لذلك في المعاجم التي تذكر أمثلةً ومشتقات في غير أبوابها، وأكتفي هنا بمثال على ذلك من كتاب “البيان والتّبيين” للجاحظ، إذ قال: سئل العتّابي: ما البلاغة؟ فقال: كلّ ما أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ.. فقيل: قد عرفناه، فما معنى الاستعانة؟ فقال: أما تراه إذا تحدّث قال عند مقطع كلامه: يا هناه.. ياهية.. واسمع منّي.. واستمع إليّ.. وأليتك تعقل، وألست تفهم؟ فهذا كلّه وما أشبهه عيّ وفساد، ولكن الجاحظ بعد خمسين صفحة عاد وقال: والعتّابي حين زعم أنّ كلّ من أفهمك حاجته فهو بليغ لم يعن أنّ كلّ من أفهمنا من معاشر المؤلّدين قصده ومعناه بالكلام المعدول عن جهته والمصروف عن حقّه أنّه محكوم له بالبلاغة كيف كان، مؤكّداً: لقد وقفت على كثير من مثل ذلك في كتب مختلفة ممّن ينقل عن الجاحظ واهماً أو مقصّراً وممّن يطلقون أحكاماً خاطئةً لأنّهم لم يسوفوا الاطّلاع على الموضوع الذي تحدّثوا فيه فنقلوا شيئاً وغابت عنهم أشياء.. وهذا لا يعني أنّ كلّ ما نقلوا كان خطأ وأعني أنّهم نقلوا من موضع الكتاب وتركوا ما جاء في الكتاب نفسه.

وينتقل مبارك إلى المعاجم فيقول: أمّا في المعاجم فقد رأيت بعض من كتب في اللغة ينفي ذكر بعض المشتقات أو الكلمات في المعجم لأنّه اكتفى بالبحث عنها في مظنّتها وما ذكره لا ينطبق إلّا على الباب الذي نظر فيه، لقد قرأت الكثير من الكتب التّراثية قراءة استيعاب وأنا اليوم أذكر ذلك لأنّ هو الذي جعل جعبتي حاوية ما لم أكن في حاجة إليه حين حويته.. والتقطت اليوم هذه الكلمات وعشرات من أمثالها وهي كلّها خفيفة في النّطق ومعبّرة وعربية فصيحة لم أنتشلها من العامّية، منوّهاً بأنّ الكثير من الكلمات كانت العرب تستخدمه قديماً ثم استعملته العامّة حتّى زهد فيه المثقفون وتركوه فقلّ استعماله حتّى توهّم بعضهم أنّه عامّي وهذا وأمثاله يجب إحياؤه وبيان أنّه عربي صحيح فصيح، مثل: الأفندي والأوادم وبح وغيرها..

وأشار مبارك إلى أنّ المعجم وحده لا يكفي لشرح ما نريد من نصوص التّراث، معللاً ذلك بأنّ المعجم لم يحو لغة العرب كلّها أوّلاً ولأنّ للعرب أساليب في التّعبير تجاوزت حدود المعاني الضّيقة للمفردات ممّا جعل شرّاح الشّعر ومحققي الدّواوين يختلفون في شروحهم أو يضلّون في بعض ما يذهبون إليه، مستشهداً بالمعلّم الذي شرح لطلّابه بيتاً لكثيّر عزّة يقول فيه:

أحبّ من النّسوان كلّ قصيرة   لها نسب في الصّالحين قصير

وفي الشّرح، القصر هنا للنّسب وليس للجسم فكلّما كان النّسب الذي ينسب إليه المرء أقرب كان نسبه أقصر.

ويتساءل مبارك: أين الّلغويون الذين ينبغي عليهم أن يسابقوا الزّمن ويسارعوا إلى إيجاد الكلمات المعبّرة التي يحتاج إليها الكتّاب والمتحدّثون قبل أن تسبقهم العامّيات والدّخيلات إلى الألسن والأقلام فإنّ هذه إن سبقت واستحكمت وتمكّنت صعب علينا وعلى الّلغويين والنّاس أن يستبدلوا بها الجديد، كذلك ما يجب علينا أن نتجنّبه وهو كثير في كتبنا الحديثة الجامعية وغيرها أن ننقل عن محدّث ما نقله عن كتاب قديم ثم أن نحيل على الكتاب القديم مباشرةً ونحن لم نره ولم نعد إليه.

ندوة كما ندوات اللغة الأخريات مهمّة غنيّة لا يدرك أهميتها إلّا من يحبّ اللغة ويبحر فيها ويخشى عليها من التّراجع أكثر فأكثر.. في الحقيقة كنّا في مرحلة ما نقول بتقصير أهل الاختصاص ومن ثّم وجدنا أنّهم يعملون ضمن الإمكانيات والحدود.. صحيح أنّه عمل ليس على المستوى المطلوب ولا يتعدّى حدود المجمع في معظمه و لا يحضره سوى رعيل قديم من المتخصصين لكن يبقى العمل أفضل من اللاعمل، ويشكرون على جهدهم في الوقت الذي نشاهد فيه الشّباب وقد نأوا بأنفسهم من المسؤولية تجاه لغتهم الأمّ، مع العلم أنّ العمل الذي لا يلقى قبولاً أو تفاعلاً أو استجابةً أو نتيجة يضمحل وتخبو همّة فاعله شيئاً فشيئاً، وهذا ما لا نرغب به أبداً..

نجوى صليبه