مهزلة حرية التعبير في الغرب!
د. معن منيف سليمان
يتحدث قادة الغرب في أمريكا وأوروبا عن القيم، وعن الديمقراطية، والحرية وحقوق الإنسان، وعن قدسيتها بالنسبة إليهم، وأن على الآخرين أن يأخذوا بنهجهم، وهم يعطون دولنا العربية دروساً في الحرية، ولكنهم في الواقع عاثوا عبر السنوات الطويلة الماضية في دولنا العربية تدخلاً ومحاولات تخريب واحتضاناً للعملاء والخونة باسم هذه القيم بالذات. وكما هو معلوم، فإنهم يفعلون هذا على الرغم من أن حالهم في مجال احترام الحرية وحقوق الإنسان لا يسرّ أحداً، وعلى الرغم من أن جرائمهم في دولنا وفي العالم، التي هي في جوهرها جرائم بحق الحرية وحقوق الإنسان، هي جرائم مروعة يجب أن يحاكموا بسببها كمجرمي حرب وإبادة.
إنّ حرّية الصحافة في الغرب هي للغربيين، لا لغيرهم، إلا إذا كان هذا الغير يعدّ نفسه امتداداً سياسياً لهم. إن الصحافة الحرة واحدة من سلطاتهم ومن وسائل سيطرتهم وحكمهم العالم، وبالتالي يتوجّب النظر إلى أحوالها ضمن هذا الإطار حتى نعرف من بعد كيف نرتب ردود فعلنا على أدائها وأدوارها المختلفة، والأهم حتى نعيد النظر في تكوين إعلامنا نفسه وفي أدواره المختلفة. لنكتشف أن حرية الصحافة وحرية التعبير في الغرب هي في حقيقتها حرية “تحقير وشيطنة” الدول والقوى التي يريد الغرب تصويرها هكذا خدمة لمصالحه السياسية.
وفي هذه المناسبة تجدر الإشارة إلى مقال كتبه الكاتب هو فينيان كاننغهام، وهو كاتب أمريكي معروف تنشر مقالاته كثير من المواقع والصحف في الغرب. والمقال عنوانه “مهزلة حرية التعبير في الغرب”. ذكر أن قادة الدول الغربية يتحدثون بلا توقف عن القيم وحريات التعبير، وما شابه ذلك، ثم يقول:” لكن الحقيقة إنه في التطبيق العملي، فإن هذه القيم الغربية التي يتحدثون عنها ليست سوى خرافة لا وجود لها، إنها مجرد شعارات فارغة تماماً يردّدونها ويهلّلون لها على سبيل الخداع لأغراض دعائية سياسية فقط”.
ويقدّم الكاتب أمثلة عديدة تؤكد ما ذهب إليه. يقول مثلاً: “أين كانت مثلاً قيم حقوق الإنسان وحكم القانون التي يتشدقون بها عندما قام الرؤساء ساركوزي وكاميرون وأوباما بتدمير ليبيا؟ وأين هي هذه القيم من عملية التدمير الدائم لسورية والعراق؟”.
وأما إذا استخدمت حريات التعبير في الغرب لمهاجمة المصالح الغربية، ولكشف نفاق واحتيال الغرب، فإنها تكون إذن غير صحيحة وغير مقبولة ولا تصبح قيماً عالمية، وتقف الرقابة والمنع في الغرب سداً منيعاً يحول دون ذلك.
لقد تمّ منع نشر مقالات أو دراسات أو نقاشات في الصحافة الحرة عن قضايا محدّدة من بينها قضية المحرقة النازية، وكتاب “كفاحي” لهتلر، ولا يجوز بنظرهم نشر الأفكار المسيئة لليهود ولمحرقتهم في الحرب العالمية الثانية عبر التشكيك في المحرقة وعدد الذين قتلوا خلالها، ومن بعد المجازر التركية بحق الأرمن، ومؤخراً بعض الأدب الروسي. ولعلّ أبشع تلك الانتهاكات تلك القيود التي فرضتها الرقابة الغربية على وسائل التعبير الأجنبية، ومن بينها قناة “المنار” اللبنانية التي مُنعت من البث في أوروبا، ويصل المنع أحياناً إلى حدّ نسف المكاتب الصحفية في بغداد وأفغانستان من طرف الاحتلال الأمريكي بالطيران الحربي، وقتل صحفيين في أثناء اجتياح بغداد عن سابق تصوّر وتصميم.
ولقد كشفت أبحاث عن حوادث تظهر القيود على “حرية الصحافة” في الدول الغربية نفسها تستند في ذلك إلى وقائع موثقة في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية. تلك الدول التي طالما توجّه سهام انتقادها إلى العالم كفرنسا وألمانيا وبريطانيا والسويد وإسبانيا وهولندا والولايات المتحدة. ويتساءل المتابع “هل حرية الصحافة غير محدودة في هذه الدول التي تتبجح بالديمقراطية، ألا يوجد مشكلات تعترض المراسلين في عملهم الميداني؟”.
من خلال استعراض وقائع وحوادث حصلت، وقوانين طبقت في الدول الغربية تكشف الآلية التي تلجأ إليها الدول الغربية في تقييد حرية الصحافة ومراقبة تحركات الصحفيين.
ففي بريطانيا، يُشار إلى قانون التحقيق البريطاني الذي يقضي بالسماح لسلطات التحقيق بالدخول إلى البيانات الشخصية لمستخدمي الإنترنت في حال الاشتباه بهم، والطلب من مقدّمي خدمات الإنترنت الاحتفاظ بمعلومات عن المواقع والخدمات التي يصل إليها مستخدمو الإنترنت على مدى 12 شهراً كاملة، وهو ما يُسمّى “سجلات اتصال الإنترنت”. ومن خلال هذا القانون ستتمكّن السلطات من الاطلاع على بيانات موظفي 48 مؤسّسة تتبع للحكومة البريطانية، حتى بعد قيام الموظفين بحذفها. وفضلاً عن ذلك يُسجّل في هذا السياق مداهمة الشرطة البريطانية لمبنى صحيفة “الغارديان” بعد نشرها التسريبات التي أدلى بها إدوارد سنودن (الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكي)، ومسح كافة البيانات في وحدات التخزين بحواسيب الصحيفة.
أما في فرنسا فيذكر هاهنا ممارسات الشرطة الفرنسية تجاه الصحفيين، في أثناء المظاهرات التي خرجت ضد قانون العمل الجديد في البلاد. ففي إحدى المظاهرات بمدينة رين (غرب) أجبرت الشرطة الفرنسية مصوراً فوتوغرافياً على مسح الصور التي التقطها للمتظاهرين والشرطة الفرنسية، وفي المظاهرة نفسها تعاملت بخشونة مع ثلاثة مصورين صحفيين.
وأما في ألمانيا فقد فتحت السلطات الألمانية دعوى قضائية ضدّ مراسلين اثنين هما “جوزيف هوفيلشولتي” و”إريكشميتدـ إنبوم” يعملان لمصلحة صحيفة “فوكس” الألمانية الأسبوعية، بتهمة نشرهما “وثائق سرية للدولة” تتعلق بفعاليات دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية إبان حرب العراق. وتحت الذريعة نفسها داهمت الشرطة الألمانية مبنى مجلة “سيسرو” الألمانية.
أما في أمريكا فإن الوقائع سجّلت أن السلطات الأمريكية احتجزت الصحفي الكندي “إدوارد أو”، ولم تسمح له بتصوير مظاهرة للهنود الحمر احتجاجاً على تنفيذ مشروع خط أنابيب للطاقة بولاية داكوتا، ودامت مدة الاحتجاز ساعات، وتمّ خلالها مصادرة هاتفه وكاميرا التصوير. وفي 2014، احتجزت السلطات الأمريكية 14 صحفياً في أثناء “اضطرابات فيرغسون” التي حدثت عقب مقتل الشاب الأسود، مايكل براون، في 9 آب 2014، على يد الشرطة الأمريكية.
وفي أحداث بالتيمور عام 2015، التي وقعت إثر مقتل رجل أمريكي من أصل أفريقي يُدعى فريدي غراي، انهالت الشرطة الأمريكية بالضرب على “ج. م. غياردانو” محررة الصور في موقع “سيتي بيبار”، وأوقفت الصحفي “سعيد سيركان غوربوز” الذي يعمل لمصلحة وكالة “رويترز”. كما أوقفت السلطات الأمريكية مراسلة صحيفة “وول ستريت جورنال” في الشرق الأوسط، ماريا أبي حبيب، بدعوى “ذهابها إلى مناطق خطرة”. وحدث هذا الانتهاك أيضاً لـ جوليان أسانج، مؤسّس ويكيليكس، لأنه أرسل وثائق وفيديوهات عن حرب العراق وأفغانستان للصحافة وأعلنها للملأ.
وتعدّ تركيا من بين الدول التي شهدت تدهوراً كبيراً في حرية الصحافة بسبب تزايد الرقابة وإغلاق وسائل الإعلام المستقلة والارتفاع الكبير في عمليات الاعتقال والعنف ضدّ الصحفيين. كما شهدت بولندا تراجعاً كبيراً بسبب عدم تسامح الحكومة مع التغطية الصحفية المستقلة والنقدية والقيود على حرية التعبير بشأن تاريخ وهوية بولندا.
وتجدرُ الإشارة هنا إلى التصريحات التي أدلى بها بعض الغربيين في بيان الفرق بين المجتمعات الشرقية، والمجتمع الأوكراني الأوروبي في تغطية الحرب الروسية على أوكرانيا من حيث الثقافة والمظهر والعرق، الذي يحرصون على سلامته ومساعدته في محنته، تدعو إلى إعادة التفكير في كثير من الشعارات التي يطرحها الغرب وخاصة فيما يتعلّق بحقوق الإنسان. ذلك أن المقارنات من قبل بعض السياسيين والإعلاميين الغربيين أظهرت أن المجتمعات الشرقية يصوّرونها في مقاييسهم أنها متخلفة مفلسة من القيم الحضارية فلا تساوي عندهم شيئاً.