مدحة عكاش عميد الثقافة السورية
البعث الأسبوعية- أمينة عباس
أطلق عليه الرئيس الراحل حافظ الأسد لقب عميد الثقافة السورية وعرف كذلك براوية العصر، وأصمعي القرن العشرين، وكانت مجلته “الثقافة” معلماً من معالم دمشق التي استطاع من خلالها رفد الحركة الثقافية بالمواهب المبدعة، ودعم المبدعين وتشجعيهم.
مجلة الثقافة
أصدر مدحة عكاش العدد الأول من مجلة الثقافة عام 1958 وكان لها أهميتها في تلك الأيام بسبب قلة الصحف الموجودة آنذاك على الساحة الأدبية مما اضطر الكثيرين من الأدباء السوريين، لنشر أعمالهم خارج الوطن، وجاءت الفكرة لإيجاد صحيفة تحتضن كتابات أبنائها وتشجع المبدعين. وتركت مجلة الثقافة منذ العدد الأول بصمتها الواضحة على الحركة الثقافية في سورية، فكان لإصدارها الأثر الكبير في استقطاب أقلام الأدباء والشعراء وقد حرر الأعداد الأولى منها عدد كبير من الكتاب السوريين، كان من بينهم شفيق جبري وشاكر مصطفى وأمجد الطربلسي، كما ساهمت المجلّة في اطلاق مسيرة نزار قباني الشعرية حيث كتب فيها باكورة قصائده وأصبح من كتابها مع كلّ من عمر أبو ريشة وبدوي الجبل، وكان لعكاش دور هام تعريف الناس على الأديبة غادة السمّان، التي شجعها على الكتابة عندما زارت مقر المجلّة ذات يوم وهي برفقة أبيها، كانت المجلة تصدر بشكل شهري ثم تحولت إلى أسبوعية في منتصف السبعينيات تصدر في صباح كل يوم سبت وكان مقرها في زقاق الصخر في شارع الأرجنتين وسط دمشق، في بيت دمشقي قديم أصبح محجاً للمثقفين والكتاب حتى هدمه سنة 2000 تمهيداً لإنشاء فندق الفورسيزن حيث نقل مقر المجلّة إلى مكتب صغير في برج دمشق، وظلّ مدحة عكاش يُديرها حتى أيامه الأخيرة.
الغائب – الحاضر
يؤكد الباحث غسان كلاس أن لا أحد يختلف على ريادة عكاش، وتربعه على عرش الصحافة الأدبية، على مدى نصف قرن من الزمن وهو الذي حمل على عاتقه منذ العام 1958 مسؤولية جسيمة تعجز مؤسسات عن النهوض بها وذلك لتشعبها وتنوعها وبعد مراميها فعدّ واحداً من روّاد الفكر العربي المعاصر في سورية لا بفضل ما قدّمه من آراء و نظريات وأدب، وإنما بفضل مساعيه النبيلة وجهوده الجليلة في رفد الحركة الثقافية بالمواهب المبدعة، ودعم المبدعين وتشجعيهم إضافة لتميزه في تذوق الشعر ونقده، فكثيرون أولئك الشعراء الذين كانوا يطلبون نصحه وقد تخرج في مدرسته عدد من الشعراء باتوا أعلاماً في الشعر. وهو – إلى ذلك – كرس جهوده واهتماماته لتكريم القامات الثقافية والشخصيات الفكرية والأدبية وهو الذي كان يخصص في “ثقافته” الشهرية أو الأسبوعية ملفات للحياة الأدبية وإبداعاتها إن في الأقطار العربية أو المحافظات السورية، كما كان يرعى الموهوبين من الأدباء ويخص نتاجاتهم بمساحات واسعة في ثقافتيه، ويسجل له تلك الإصدارات القيّمة والنوعية التي حملت على مدى سنوات عنوان “كتاب الثقافة” وأيضاً المسابقات الأدبية التي كان يطرحها ويعلن عنها ويتوج الفائزين بها وكل ذلك، وغيره، بجهد فردي مشفوع بالمثابرة والعمل الدؤوب الذي كان موضع اعتزاز وتقدير لكل من عرفه ووقف عليه، ولا سيما في منتداه الثقافي “شارع البرازيل” الذي كان يجمع خيرة المثقفين بأطيافهم ومشاربهم المختلفة يتبادلون الأفكار والآراء والذكريات وفنون الشعر والنثر، في حين بين أ.حسين جمعة أن الثقافة الأسبوعية والشهرية كانت مدرسة ذات منهج معرفي فتحت ذراعيها لكل من دق بابها وأمدت قارئيها بخزانة معرفية وأدبية ونقدية وقد استظل بظل دوحتها أدباء ومثقفون فنشرت نتاجاتهم بعد أن كانوا يقتصرون على إرسالها إلى مجلات عربية، مشيراً إلى أن الثقافة الأسبوعية والشهرية كانتا السجل الثقافي والأدبي والنقدي واللغوي والصدر الرحب لرعاية نتاجات المبدعين والنقاد ولاسيما الشباب الذي كان يؤمن بهم عكاش، مؤكداً جمعة أن عكاش عرف قيمة الثقافة وقدر أهلها وأعلى مكانة الأدب والأدباء لأنه أدرك أن الوطن لا يمكن أن يزدهر بغير الثقافة والأدب والفن.
الشاعر
أحبّ عكاش اللغة العربية منذ صغره وتذوق ثمارها على يد علماء أفاضل أمثال الشيخ محمد علي مراد آغا ومحمد البارد وخالد المنجد وبدر الدين حامد، فجرى لسانه ينظم الشاعر وكان شاعراً لم تجذبه الظواهر الشعرية الجديدة، وكان بدر الدين الحامد مدرسته التعليمية نقطة بدئه فحمل تيار التراث والأصالة مؤكداً على تراثنا العربي، محافظاً على لغتنا جميلةً، طرق كل أبواب الشعر ونظم في كل فن من فنونه ولكنه وقف في ديوانه اليتيم والذي اصدره عام 1957 تحت عنوان “يا ليل” على الغزل وقد جمع فيه قصائد متفرقة نظمها ما بين 1940-1957 في فترة كان عمالقة الشعر العربي يحتلّون الساحة الأدبية كعمرأبو ريشة وبدوي الجبل وسليمان العيسى، وقد صف الشاعر المهجري زكي قنصل الديوان بالدرة اللمّاعة في جبين الشعر العربي يرفع صاحبه إلى مرتبة الشعراء العذريين، أمثال “مجنون ليلى” و”جميل بثينة”، مشيراً قنصل إلى جرأة عكاش في نشر ديوان غزلي في زمن تكاثر فيه أدعياء الوطنية وأصبحت فيه الكلمة الحلوة المنمقة سبّة وجريئة، وحين سُئِل عكاش عن رحلته الثقافية ومراحلها قال أن حفظه للشعر العربي القديم كان عامل تثبيط لإبداعه الشعري، فقد أحس أن الشعر الذي ينظمه بدا ضعيفاً أمام ما أنتجه عمالقة الشعر العربي لذلك توقف عن اصداره ولكنه لم يتوقف عن نظمه ودراسته كلياً وهو الذي كان مطّلعاً على محاولات التجديد عند شعراء الأرض المحتلّة وقد جاء شعره يحمل سمات القديم والجديد وأن أكثر ما يتسم به شعره غنائية مفرطة تردّه إلى الرومانسية دون الالتزام بالرومانسية مذهباً، وهي غنائية سادت في الفترة التي نظم فيها ديوانه.
مسيرة حافلة
ولد عكاش -ابن حماة- عام 1923، تخرج في الجامعة السورية كلية الحقوق وعمل في تدريس اللغة العربية وآدابها في ثانويات دمشق منذ عام 1948، كما عمل مديراً لكلية دمشق العربية، ومدرساً في معهد الاعداد الاعلامي ومقرراً لجمعية الشعر في اتحاد الكتاب العرب، قام بتحقيق ثلاث رسائل للجاحظ ونشر مختارات من الأدب العربي القديم والحديث: ابن الرومي وبدوي الجبل فضلاً عن تحقيق عشرة أجزاء من كتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه الأندلسي وكتاب حمل اسم “شعب ينشئ الحياة في كوريا” تحدث فيه عن قصة شعب فرض وجوده في الحياة متجاوزاً أصعب مراحل النضال ضد الاستعمار متخذاً طريقه للكمال في جميع المجالات، أسس دار نشر تقوم بطباعة الكتب والدواوين الشعر لبعض الكتاب والشعراء وتبنى من خلالها أصحاب المواهب الواعدة وقد أكد في أحد حواراته أن الدار لم تهدف الى الكسب المادي وانما كانت رديفاً لهدف المجلة الكبير للكشف عن المواهب لذلك كانت أكثر المنشورات التي صدرت عنها للشباب فكانت خير مشجع لهم على الاستمرار والتقدم في حياتهم الأدبية إضافة إلى نشرها لكبار الكتاب والشعراء أمثال د.عبد السلام العجيلي والشعراء: نديم محمد وحامد حسن وجابر خير بك وخضر الحمصي وغيرهم الكثير.
نال عكاش وسام الثقافة البلغارية عام 1987 ووسام الاستحقاق من جمهورية كوريا الديمقراطية عام 1991، كما منحت لجنة رابطة إحياء التراث العربي في إستراليا جائزة جبران العالمية، كرمته وزارة الثقافة عام 2007 تقديراُ لإبداعاته ودوره الكبير في خدمة الثقافة، توفي مدحة عكاش في دمشق 2011عن عمر ناهز 88 عاماً.