مجلة البعث الأسبوعية

البنية الذهنية والمفهوم الجمالي في الفن

البعث الأسبوعية-رائد خليل

تُبنى القراءة الأوليّة للمشهد أو التكوين العام على مفهوم التمفصل (التقطيع على مستوى الدال) وتحديد الخيار في القراءة البنّاءة كفعل أوليّ، أو مسح شامل دون الدخول في لجّة العمق المسرحي للمشهد.
هنا، تبدأ بلورة الإطار العام لفهم الدلالات وإعادة البناء بما يخدم الغرض الذي تتحرك فيه ماهيات المعرفة والبحث.
المفهوم التصاعدي، هو هدف يريده الفنان ليختصر الخطاب عبر مسارات دلالية وتراكمات المشاهد المترسخة للوصول إلى التماهي غير المنقوص، ومسك خيوط أنساق الانبثاق الدلالي، كي تتشكل لدى المتلقي أيضاً آلية قراءة الشخوص وتدفقاتها الانفعالية على مساحة التوصيف والسرد والتحكم بالبناء الشكلي وخلق نماذج منطقية.
إذن، تظهر الروابط والأنساق في حوار اللوحة مع المتلقي كفعل وظيفي فيه من الرؤى والوصف ومعايشة الشخوص ما يكفي لخلق أنماط رؤية متعددة السمات.
يرتبط التشخيص بالقدرة على الانخراط في المعنى ومحاكمة الأحداث والمغامرة في المخاطبة.
وهنا، يشتغل الفنان على المحاكاة والمحاكمة على المستويين الذاتي أولاً، والمؤثر الخارجي بكل تداعياته وعبثه ثانياً، فالمنطق أو بعضه يتجلى بصدقيةِ وواقعيةِ التوصيف الدقيق للحياة.
ربما لا تحتاج بعض الرسوم إلى هذه الوقفات المطوّلة بسبب خلوها من مشهدية أو تفاصيل وإبهار لوني، وقد تأتي على شكل خطوط بسيطة تشبه أساليب الأسلاك المنحنية بدقتها وانسيابها، وتفتح باب التعايش الفني الجمالي مع المستويات كافة، وتندرج تحت عناوين التأملات بأبعادها الفلسفية، أو ما يشبه الومضة التي تخاطب النفس كحدث شعوري يقابله الانفعال غير المفتعل.. وهذا إفصاح واضح عن الوظيفة.
إذن، إيقاعات الرؤية والتناغم الخلاق في عملية البناء الذهني الذي يرتكبه العمل الإبداعي، يقوّض الفراغ، ويقرّب الهوّة بتماسك المفردات الفنية وانسيابية الخطوط المسربلة في بعض الأحيان بلون الإيحاء والبلاغة.
القول الفني، حلقات متكاملة في أبعادها الجمالية من تكثيف ودلالة وانبثاق وبلاغة واستناد وتوصيف واستعارات.
يختزل العمل الفني مفهوم التركيب “الزمكاني”، بجمع الفعل الموضوعي الذي يتماشى مع عقارب الوقت الذي يشكل عاملاً لاستمرار الاتصال الزمني، واستثمار اللحظة وتأريخ المرحلة.
هذه العوامل المكتظّة بالمنهجية والأسلوب الذي يتبعه الفنان، تميّزه عن أقرانه.. وله -أي الأسلوب- أنماط بنيوية سردية وثنائيات لونية متقابلة.
وتتشكل في إطار هذه الثنائيات ملاءات بنيوية ووحدات نصية تسير على أقدام واثقة بنشوتها بعيدة عن المألوف.. وهنا، لا يخفى على القارئ المتمكن تصنيف الفئات المعرفية الدلالية وتفكيك النص الفني بكل تكوينه وعمقه ومصادره اللونية.

استاطيقا
بعيداً عن القصدية (الموقف المكون للفكر)، تقودنا سيميائية الفن إلى فتح بوابات اللامحدود بمفاتيح التعبير الجمالي والدلالي.. ولأنّ “الجمال هو علم الحقيقة البديهية”، لا يمكن كشف العلاقات في بنية النص الفني دون الولوج في أبعاد العلامات، التي تشكّل نسقاً مهماً استدلالياً مربوطاً بالتنبؤ الشعوري مع المدرك البصري معاً.
مرجعية الاصطلاحات وحمولاتها، تبقى حبيسة الرهانات على قدرة النظرة التقليدية، وهذا ما جعل السيميائيين ينبشون خفايا السمات ويستنبطون القول السردي ضمن بناء منطقي.

ترتبط الفنون عادة بعلامات تتقاطع في مشتركات لفظية.. ولكنْ تختلف توصيفات القراءة بحسب الخصائص، وترتيب العناصر وأبحاثها بعيداً عن ترادفية المعنى المشترك.
هذا المفهوم ما هو إلا قراءة لإلغاء أحادية النظرة “المقولبة” وترك التأويل كي يفرد أجنحته بعيداً عن معيارية النقد ومغاليقه.

إذن، الاستاطيقا..عنوان إشكالي يأخذ قوافل التساؤل إلى فجر متعدد الاحتمالات. هي الدلالة المتوالدة، إذ تسبقك النية الاستقرائية للولوج في جوهر الغرابة وازدواجية الرؤى.. ولعل القارئ سيقف بين جغرافيتين تنتميان لحالتين من البوح والتفاعل معاً..!
يشكّل العنوان الجمالي قولاً فنياً فلسفياً مغايراً في التلقي والتعاطي.. وقد نعلّق في جيد كل حالة جرساً لينبّه الوعي كي يستفز ما فينا دون ترك باب التشتت موارباً.
يقدّم الفنان عادة لنا لوحته حيناً على طبق من فضة الكلام متعمداً.. لكي نمسك بخيط التأمل في أحايين كثيرة.
و تتجلى بعض الحالات بالتلقائية والانسيابية التي لا تخلو من الموسيقا المرسومة ليعيد السياق إلى سكة الصياغة بكل مكنوناتها المبنية على دقائق الأمور.. وبلاغة التوجس في أقصى قلقه.
فالاشتغال الجمالي ماهو سوى تجليات حسية نفسية تترك للمتلقي حرية التأمل والوقوف على ناصية المعرفة.
والإشباع النصي في القول والتعبير، مكّن صداقة الذاتي بكل انفعالاتها مع الآخر المخاطب دون نسيان عامل الزمن. ففيه المبتدأ أي الومضة الخلاقة إلى خبر معلن جريء لايخلو من التمرد على النفي أولاً وعلى ما تبقى من وجوه وانفعالات مسربلة بالحياة .  

شجاعة المفردات الفنية تكمن في صراحة الفنان في إظهار المناسبة والغرض المبني على الوصال مع النفس أولاً من نافذة إعادة الاعتبار للجمال على مبدأ فلسفي يقول بإنتاج جديد للمرئي الذي أفقده بعضهم أهم عناوينه في التجريب والخلق دون تعشيق يسقط هيبة القول الأصيل.

هكذا يتمرد الفنان على واقع هش بوضع القارئ أمام خيار الجمال فقط.. مع إنصات لصوت الصفاء الذي يُخرج القلب كطير من قفص الضلوع ليعلن حرية السطور.. وكأنها مهاتفة للحظة القلقة.. تلك اللحظة التي فتحت معابر الشك..(الكوجيتو).
 إذن، حرية فضفاضة تسيل على سطور البوح والقول الإبداعي كي تغزو مكامن الذات بترتيب بهي ودفق تخيلي.. فيه من كشوفات الآنية ما يشي بنفس أمارة بالفتنة.

كثافة اللحظة تجعل مرابع الاحتفاء بالنص الفني شكلاً مكملاً لترميم المفهوم الطبولوجي الذي يقطنه الفنان بكامل هيبة قلقه التي أفرزت عشرات الشذرات وأعطت لتضاريس الرؤى مجداً آخر بدلالات صادقة سامقة يتبجح بها الفنان علناً دون رسم متاهات لذلك.
ومن هنا، تأتي اليوميات مغزولةً برجفة فنان (على قلق) متألم يعاني نزفاً قاب ألفين ولون. وتستوقفنا إيقاعات الولع بالممكن.. إذ نرى في أغلب الأحيان إقحام مفردات ورموز جديدة تحتاج إلى شجاعة مدججة بالصوت.. فلا قيود في النصوص الفنية.. وهذا ما يجعل الفنان يستنبط الحفيف من أوراق رسائله الشفيفة.. ومن لحاء أشجاره الباسقة يُلبِس الرسوم الفنية رقصة غجرية تبوح بسر النشوة الكامنة دهراً.. وهي في النهاية حصيلة عمر مليء بالبوح والتلميح المجدي بأصالة مداه.
ليس من الصعب أن يساهر الفنان الجمالي نجومه.. فربما يربط في جذع كل نجمة حبلاً يتسلقه في بوح سوريالي بعيداً عن الإبهار اللوني الجاذب. وكأن الغاية فقط هي استنباط واستنطاق البراكين الخامدة في الرغبة.
التصاوير الفنية الجمالية ( الاستاطيقية) أمينة ومعطاءة ومسربلة بهمهمات الثواني المأخوذة بالتجريب والحداثة التي يستطيع القارئ المتمرس أن يرسم دوافعها الذهنية بحرفنة ممسوسة بالمفاجأة.
الاستاطيقا أو علم الجمال البديهي.. يبدأ بالدال والمدلول والثيمات المحمولة بالتواريخ كواقعة في زمن اللجوء إلى أحضان الرجفة التي خطّت بعد زمن موائد في أعالي الحزن والنجوى ورسمت في ذروة الرغبة اشتعال الغمام بكل أطيافه اللونية.. إذن، المنظور الجمالي يعدّ تخليداً للدلالة بكل رحابة صدر.. ومن هنا، يجيء الجمال مزهواً وتواقاً للغوص في لجّة الصدى وحوار التجليات.