فخ ثيوسيديدس… النظام العالمي في طور الاستبدال وإعادة كتابته من الصفر
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
بدأ نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة بتوطيد الأيديولوجية الليبرالية للنزعة الدولية الغربية على أساس المبادئ الأساسية لسيادة القانون، واقتصاد السوق، وحقوق الإنسان، والسلام، والتجارة المتبادلة كوسيلة لتجنب العودة إلى الحروب الدموية. ولكن على مدى العقدين الماضيين، شهد هذا النظام أخيراً تحولات مختلفة من قبل نفس مؤسسي الأيديولوجية الليبرالية للأممية من خلال الحروب الوحشية التي لا نهاية لها في شرق وغرب آسيا. ففي ضوء حروب التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة في فيتنام وأفغانستان والعراق وليبيا وسورية والآن في أوكرانيا، لم يعد بإمكان المرء رؤية أي نظام بتطلعات لحفظ السلام أو حقوق الإنسان.
في هذا النظام الذي تقوده أمريكا، شهد العالم ظهور مفاهيم مثل التدخل الإنساني المسلح، وانتهاك سيادة دول مثل أفغانستان والعراق وليبيا وسورية بذريعة الدفاع الوقائي أو بناء الدولة، ولم تكن نتيجة التدخل في هذه الدول سوى المزيد من دوامة الفوضى والقتل الوحشي. فـ “الوسومات” التي تستخدمها الولايات المتحدة وحلفاؤها للصين وروسيا هي استثناءات للنظام الدولي الليبرالي الطبيعي تماماً والمقبول من قبل الولايات المتحدة. وفي الحقيقة، لم يكن هذا النظام دولياً وليبرالياً، بل مهد الطريق لحروب لا نهاية لها في الدول الغنية بالنفط أو عدوان اقتصادي وعقوبات ضد دول صاعدة مثل الصين والهند وروسيا، حيث تهدف هذه الهجمات بالطبع إلى ضمان بقاء هذا النظام العالمي الأمريكي المتدهور من خلال خلق اضطرابات اقتصادية وأمنية لنيودلهي وبكين وموسكو.
في أزمة أوكرانيا على سبيل المثال، تقوم الولايات المتحدة مرة أخرى بتقسيم دول العالم إلى أصدقاء ومعارضين، وتدفع مع حلفائها الأوروبيين الدول الأخرى إما للانضمام إليهم في حماية وجود الأممية الليبرالية، أو أنهم سيكونون هدفاً لأشد العقوبات الاقتصادية والسياسية. وبشكل عام، أعدّ الغرب المسرح بطريقة ستكون قريباً شاهداً على مواجهة النظام الأمريكي المتدهور مع روسيا والصين باعتبارهما الخصمين الرئيسيين للنظام العالمي المتغير.
وعلى عكس الادعاءات الغربية ، فإن سلام “كانط” القائم على التعاون بين الدول قد أفسح المجال أمام أيديولوجية المحافظين الجدد، بوش – ترامب، إذ لم يعد من المهم من يحكم البيت الأبيض، لأن الأيديولوجية الهيكلية في الولايات المتحدة قد تجاوزت أي فرد أو فرع من فروع الإدارة الأمريكية، وتحولت إلى الولايات المتحدة والسياسة الخارجية الفعلية للكتلة الغربية، وأصبحت الدول منذ إدارة بوش، إما أصدقاء أو أعداء.
يحمل هذا الموقف تشابهاً صارخاً مع وصف “ثوسيديديس”- أعظم مؤرخ يوناني قديم ومؤلف كتاب ” تاريخ حرب البيلوبونيز”- للحرب البيلوبونيزية، حيث رأى الحرب بين إسبارطا وأثينا على أنها حتمية، لأن إسبارطا كانت تخشى القوة الناشئة لأثينا.
كما ناقش خبراء سياسيون وباحثون مثل ميرشايمر-عالم سياسي وباحث علاقات دولية أمريكي ينتمي للمدرسة الواقعية- أيضاً هذه الحرب وأعربوا عن مخاوفهم بشأن وقوع الولايات المتحدة في فخ ثوسيديدس في النظام الدولي، إذ تشعر الولايات المتحدة وحلفاؤها بقلق بالغ بشأن قوة الصين الناشئة، أو صعود تنين شرق آسيا، ولهذا يحذر الخبراء باستمرار من أن الغرب في حالة حرب مع الصين، ومن المرجح أن تتحول إلى حرب حقيقية. لكن إثارة الخوف من الحرب مع الصين هو مجرد دعاية فارغة، فالولايات المتحدة لا تملك القوة ولا الإرادة لبدء حرب، وخاصة إذا كانت الأمور غير متوقعة.
تُظهر حالة أوكرانيا عدم قدرة الولايات المتحدة على مواجهة قوة عسكرية عالمية بشكل مباشر، لكن بكين تدرك جيداً أن اقتصاد الصين وثروتها هما جزء من أصول الغرب، وأي إجراء يتم اتخاذه لإلحاق الضرر بالصين سوف يأتي بنتائج عكسية عليهم.
تنظر واشنطن وأوروبا إلى روسيا على أنها تهديد عسكري، والصين على أنها تهديد اقتصادي وتقني عالي. لذلك، في البداية، تسعى الكتلة الغربية إلى محاولة دق إسفين بين بكين وموسكو في تعاونهما الاستراتيجي وتوسيع الهوة بينهما، و بعد ذلك تعتزم جعل القدرات الاقتصادية المضمونة لآسيا وأوقيانوسيا غير آمنة بالنسبة للصين على أمل خلق حاجز أمام التنمية الاقتصادية للصين، ودفع بكين إلى إنفاق جزء من ميزانيتها التنموية على الشؤون العسكرية أو التوترات مع الدول الأخرى. ومهما كانت نتيجة الأزمة الأوكرانية، فإن الكتلة الغربية تحاول تصوير الصين على أنها التهديد الأكبر للغرب والعالم بأسره.
و مما لا شك فيه أن الصين لم تعد قوة صاعدة للنظام الأمريكي في فترة ما بعد الحرب الباردة، بل هي الآن منافساً خطيراً للغرب، إذ تمتلك الصين الآن القوة الوطنية والتكنولوجيا لإنشاء كتلة اقتصادية وحتى عسكرية إلى جانب شركائها ضد الأممية الليبرالية. في حين إن الولايات المتحدة ومعظم حلفائها الأوروبيين يعانون من ديون ضخمة أكثر من ثرواتهم الوطنية، لذا من المتوقع أن تتفوق الصين التي تمتلك أكبر احتياطيات عالمية وتقنية عالية على الولايات المتحدة بحلول عام 2030 لتصبح أكبر اقتصاد في تاريخ البشرية.
يبدو أنه لم تعد هناك حاجة لمراجعة النظام العالمي بعد الآن إذ سيتم استبداله وإعادة كتابته من الصفر، فقد نجحت الصين في تكييف أهدافها الاستراتيجية مع التغيرات الهيكلية العالمية في السياسة الدولية. وخلال أزمة فيروس كورونا ، أظهرت بكين أيضاً للعالم أنها تستطيع في وقت واحد الحفاظ على قوتها التجارية العالمية وحماية أرواح شعبها.
بالطبع ، لا تسعى بكين إلى تشكيل نظام جديد فقد حققت التطور والتقدم المرغوب فيهما في النظام الحالي، لكن الكتلة الغربية تخشى أن تكون الصين هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن تحل محل النظام الدولي الأمريكي المتحول دون طموح سياسي وأمني وعدوان. في الواقع ، فإن العدوان الأمريكي على الصين عبر أوكرانيا وروسيا يهدف إلى كبح التنمية الاقتصادية للصين ووضع خطاً أحمر لمصير النظام العالمي المنهار.
يشعر حلفاء واشنطن في جنوب شرق آسيا، بما في ذلك أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية بالقلق من أن التحول في النظام العالمي سوف يشجع الصين على استعادة وطنها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وعلى أي حال، أصبحت أوكرانيا وتايوان الآن مركزين للقضايا الجيوسياسية وستستمر الصراعات بالتأكيد حتى تتغلب إحدى الكتل العالمية الجديدة على الأخرى.