في ذكرى النكبة وتاريخ الحركة الصهيونية
د. خلف المفتاح
مع اقتراب ذكرى نكبة فلسطين، من المهم إعادة قراءة التيار الديني في الحركة الصهيونية فهي مسألة مهمة لفهمها دونما إهمال لباقي الجوانب سيما أنه نشأ وتطور ليتحول إلى بعد أساسي فيها، فمنزلة الدين في المشروع الصهيوني منذ قيام الكيان حتى عام 1967، ومن ثم آثار النكسة على العرب أدى إلى قلب الكثير من الأمور وطرق اإدارة الصراع وصولا للمرحلة الحالية، وما هو بصدد الحدوث في “إسرائيل” وإمكانية قراءة مستقبل الصراع مع الإشارة إلى أنه حتى بدايات القرن الثامن عشر كانت اليهودية تعيش ركودا لم تشهده ديانات أخرى، ووفق الكتاب والمؤرخين اليهود فإن اليهودية كانت تسير وفق رتابة وروتينية تخيم عليها وتحكمها ثلاثة اتجاهات:
“الهالاخا”، أي اليهودية الفقهية إجابة لسؤال ماذا على اليهودي أن يفعله أو ما لا يفعله، وينصب كل إنتاجها على الفقه والأحكام. وإلى جانب ذلك الاتجاه كان هناك حركة تسمى “ماشيحانية” ترتكز إلى حالة الأمل بمجيء المسيح الذي سيأتي، أو ما يسمى في الثقافة الدينية المشرقية “المسيح المنتظر” أو “المخلص”، وثمة تيار آخر هو التيار الصوفي أو “القبلي”. فمن الناحية العملية تيارات ثلاثة شملت اليهود الموجودين شرقا وغربا، وفي تلك الفترة لم تعرف اليهودية حركة النهضة التي شهدتها أوروبا ولاسيما في ألمانيا.
وفي منتصف القرن الثامن عشر كانت الإرهاصات الأولى لحركة الأنوار اليهودية التي نشأت وسط حركة الأنوار الأوروبية تحت مسمى “الهسكلا”، وتعني أن كل إنسان في ذهنه أو داخله شيء من العقلانية. وهذه الهسكلا أدخلت إصلاحاً داخل اليهودية الربانية الدينية الساكنة التي أشرنا إليها، وتزعم تلك الحركة موشيه مندلسون الذي سماه اليهود سقراط اليهودية وهو لم يكن راديكاليا وإنما إصلاحيا يريد الإبقاء على اليهودية كشريعة وأحكام، ولكن أراد ادخال جرعة من التحديث على الديانة اليهودية بمعنى أن يخرج الإنسان اليهودي من الغيتو ويشارك في الحداثة ويخرج من عالم الأحبار المغلق إلى عالم المثقف الحديث ويقبل أن يكون مواطنا في دولة ألمانية أو أوروبية سيما مع ظهور فكرة المواطنة في القرن الثامن عشر وهذه فكرة موشي مندلسون.
فالحل، أي حل ما سمي “مشكلة يهودية” في أوروبا بالنسبة لمندلسون يكمن في أن يصبح اليهود مواطنين كاملي الحقوق داخل دولهم التي يعيشون فيها وهذا يستدعي من اليهودي الذي يعيش في أوروبا إجراء عملية مطابقة بين يهوديته وبين مقتضيات المواطنة والاندماج في تلك المجتمعات التي يعيشون فيها، ما يحتاج إلى ثمن هو البقاء في اليهودية بوصفها دينا له مجاله الخاص والعيش في المجتمعات الأوروبية بصفة مواطنين يخضعون لقوانينها، وسيكون ذروة هذه الحركة الإصلاحية متمثلاً بانتقال مركز الحركة اليهودية الديني والسياسي إلى أميركا عبر بيان بيتسبورغ 1881.. وهذا البيان ذو النقاط الثمانية يلخص جوهر هذه الحركة الإصلاحية وهو الذي يعتبر في النقطتين الخامسة والسادسة أن فلسطين ليست بالضرورة الوطن الذي يجب أن يرجعون إليه وأنها فكرة لا معنى لها وأن هناك رفضا للمشروع الصهيوني، ولكن سيقابلها وعلى الجانب الأيمن منها نوع من اليهودية الجديدة التي سميت الأرثوذكسية الجديدة، وهو مصطلح ظهر لأول مرة في مقابل المشروع الإصلاحي الذي سيطلع به الفيلسوف اليهودي شمشون رفائيل هيرش عبر عملية تجديد داخل اليهودية مع التمسك أكثر بالحركة الإصلاحية التي تتواجد في العالم الحداثي أي دخول اليهود في عالم الحداثة، وبالتالي سيكون هيرش هذا مناهضاَ للحركة الصهيونية الدينية السياسية.
وعلى اليسار من الحركة الإصلاحية ظهرت الحركة الصهيونية السياسية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحركة الصهيونية كانت آنذاك حركة هامشية وحتى في سياق ما يسمى “المسألة اليهودية” أو ما سماه كارل ماركس “المشكلة اليهودية”، فكان نقاش تلك الأوساط السياسية ولاسيما يهود أوروبا الشرقية أو الأوساط الأخرى يعتبر أن حل المشكلة الدينية يجب أن يتم في أفق اشتراكي كما هو حل مشكلة الطبقة العاملة فلم يكن المشروع الصهيوني إلا جزءاً بسيطا أو عنواناً فرعياً ضمن تلك المحأولة المتعلقة بحل ما سمي “المشكلة اليهودية”، فكل هذا الصراع كان على هامش الهامش، ولكن النقطة المهمة في إطار الحركة الصهيونية أنها كانت تبحث عن حل للمشكلة اليهودية ليس في سياق النقاش الأوروبي والمجتمعات الأوروبية كما أراد كل من ماركس ولينين لاحقا، أي حل اجتماعي اقتصادي، ولكن خارج نطاق أوروبا، ولعل بورخوف المفكر اليهودي خير من عبر عنها حيث يرى أن اليهود أو ما أسماه “الشعب اليهودي” كالهرم المقلوب نخبة بدون قاعدة مادية أو بنية فوقية دون بنية تحتية فيجب أن يأخذ وضعه الطبيعي، والطبيعي – وفقه – هو إيجاد ارض لهذا الشعب، وهو ما جاء به تيودور هيرتزل الذي نقل الحركة الصهيونية بوصفها حركة سياسية من هامش الهامش في الحراك اليهودي إلى قلبه ومركزه ونواته، وتكون في قلب ما يعرف اليوم بـ الصراع العربي الإسرائيلي.
هرتزل هذا وجد في قضية أو حادثة الضابط اليهودي الفرنسي درايفوس فرصة ليؤكد أن اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية عملية فاشلة وهذا يستدعي وطنا يعيش فيه اليهود، ولكنه لم يكن يبحث عن حل داخل الديانة اليهودية وهناك خطأ شائع في ترجمة كتاب هرتزل بالألمانية والذي عنوانه “يودن شتات”، وهو “دولة اليهود” وليس “الدولة اليهودية” فهو يبحث عن دولة لليهود وليس دولة يهودية كما ترجم عند الكثيرين، وتحديداً مكانا يعيش فيه اليهود – وليس مهما أن يكون فلسطين – كالأرجنتين، اوغندا، قبرص، فلم يكن لديه تركيز أساسي حول فلسطين حصراً، أي أشبه ما كان يطالب به محمد على جناح في الباكستان من المهاتما غاندي زعيم المؤتمر الهندي بإيجاد دولة يعيش فيها مسلمو الهند وليس بالضرورة دولة إسلامية، وهذا ما ظهر لاحقا في حكم ضياء الحق. أي أنه بالنسبة لتيودور هرتزل كانت المسألة إيجاد مكان يعيش فيه اليهود أي وطن دون تمسك خاص بفلسطين، علماً أن فكرة البحث عن وطن هي سابقة لتيودور هرتزل، فقد ظهر في بداية القرن التاسع عشر في الأوساط الدينية اليهودية داخل حركة الأحبار الربانية أصوات يمكن وصفها بالشاذة، من هذه الأصوات سيكون لشخصيتين تأثير خاص في تفكير تيودور هيرتزل وثقافته الدينية، وهما الربي ابراهام يتسحاق كوك ويهودا القلعي الذي عاش ومات في أوروبا الشرقية وهو أول من كتب عن ضرورة الاستيطان في فلسطين ومعه بدأت تلك الفكرة وبين أنه لابد من أن تكون تحت غطاء مالي يوفره رأس المال اليهودي في كتابه – اسمعي يا “إسرائيل” – حيث ركز على مفهوم التوبة العامة، وهي تفترض التحول والانتقال والاستيطان في فلسطين، فالفكرة اليهودية التقليدية حتى ذلك التاريخ لم تكن تفضل العودة إلى فلسطين أو “أرض إسرائيل”، ولعل الشخصيتين الشاذتين ضمن الجماعة اليهودية التقليدية اللتين أشرنا اليهما (ابراهام يتسحاق كوك ويهودا القلعي) تبنتا الدعوة لـ “العودة” إلى فلسطين التي ظهرت في حالات ضعيفة عبر الحركة المشيحانية وحركة التوبة.. هذه الأصوات الشاذة كانت تعمل على تهيئة المناخ لفكرة عودة المسيح الذي سيأتي – وفقهم – آخر الزمان.
أما لماذا كانت اليهودية التقليدية ترفض فكرة العودة إلى فلسطين والتي ستدخل في خصام ديني مع تيودورهرتزل فيمكن رد ذلك إلى أسباب ثلاثة والتي سيحاربها لاحقاً هرتزل وجماعته، وهو القائل: “إذا اعتقدتم بهذا المشروع فإنه لن يكون حلماً كما تتصورن ويمكنني القول أنني وضعت الأساس القوي لدولة اليهود”.
أما الأسباب الثلاثة فإن اليهودية التقليدية كانت تعاني من متاعب وصدى الهزائم القديمة ولاسيما هزيمة باركوخبا ابن النجم، أو ابن الكواكب، عندما ثار اليهود ضد الرومان مرتين في سنة 132 للميلاد، ولكن الرومان أنهوها بالدم ما شكل صدمة كبيرة في الوعي اليهودي إلى درجة أنهم باتوا يسمونه بار كوزبا، أي ابن الكذاب، ووصلوا إلى قناعة أن بقاء اليهود مرتبط بتمسكهم بالشريعة اليهودية، وليس ككيان سياسي، ثم لقوا صدمة أخرى في فترة السلطنة العثمانية بفشل حركة شباتاي زفي الذي ادعى المشيحانية وعودة المسيح المخلص ما أدى إلى سجنه، فهذه تركت في الوعي الجمعي اليهودي نفوراً من كل من يدعو للعودة أو يطالب بها إلى فلسطين، وطبعا في الأعم الاغلب.
السبب الثاني يكمن في الربي موسى بن ميمون القرطبي حيث بعث برسالة إلى يهود اليمن تعرض فيها إلى ذلك ورفض العودة الجماعية إلى فلسطين، ولم يحمسهم بالعودة الجماعية، ولكن أن يبقى الأمل قائماً عندهم كحلم، ومن الأسباب أيضا وجود نص في التلمود بعنوان المواثيق الثلاثة، وهو مأخوذ من نصوص يهودية، وفيه سؤال هل يجب على الزوج أو الزوجة أن يحمل الآخر إلى السكنى في فلسطين؟ أي هل سكنى فلسطين واجب شرعاً؟ واعتمادا على الوارد في التلمود وفي اليهودية التقليدية وأيضا في الحركة الحسيدية لم تعد مسألة العودة إلى فلسطين أساساً عند اليهودية التقليدية، فهذه الهزائم التاريخية التقليدية جعلت اليهودية التقليدية ترفض أو لا تتحمس لفكرة العودة إلى فلسطين، ولكن يجب الانتباه إلى الأمر التالي وهو أن هذه الحركة الصهيونية قد وجدت في اليهود التقليديين من يستمع إلى فكرة الصهيونية وانخرط وحضر المؤتمر الصهيوني، وهي التي كانت قد رفضتها اليهودية النيو أرثوذكسية أو اليهودية الجديدة بدل التقليدية أو الحريدية.
إذن، مع الحركة الصهيونية، بدأنا نلمس تحولا في مواقف اليهودية التقليدية ولاسيما حركة مزراحي التي تأسست 1902، حيث حضر بعض أعضائها المؤتمر الصهيوني الأول وتقبل فكرة قيام دولة لليهود، كما حضر ممثلو الصهيونية المسيحية، فمن الناحية العملانية كانت الصهيونية الدينية هي الدافع لقيام دولة يهودية، ولو لم تكن الصهيونية المسيحية موجودة لما كان لهذا المشروع الذي قاده تيودور هرتزل أن ينجح، فهي من فتح أبواب أوروبا لهرتزل لدرجة أن البريطانيين ومنهم القس البريطاني في السفارة النمساوية وليام هشلر عندما وضع هرنزل خريطة فلسطين والقدس والهيكل الثالث أمامه، نظر إليه على أنه المسيح الذي ينتظره المسيحيون الصهاينة، ومع وصول نشاط الحركة الصهيونية إلى البلدان العربية ومنها تونس حيث حضر المؤتمر الصهيوني الأول اثنان من التوانسة اليهود وحضورهم المؤتمر الصهيوني الخامس والعاشر ولاسيما الربي سوسة وابراهام وزان اللذان كانا على صلة مباشرة مع تيودور هرتزل، هذا الحضور أعطى المشروع الصهيوني زخماً وقوة جرى استغلاله بشكل كبير. ومع الأحداث التي شهدتها أوروبا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقبلها حادثة درايفوس في فرنسا، والنازية، برز ما جرى تسميته المشكلة أو المسألة اليهودية، وكأن الصهيونية على حق في ظل ما يعيشه اليهود في أوروبا من رفض وعدم قبول واندماج، فعمليا مع تلك الاحداث واستغلالها دخل المشروع الصهيوني مرحلة جديدة وهي ضرورة ايجاد حل لما سمي المسألة اليهودية، وكان ذلك على حساب العرب والشعب الفلسطيني، فالمشكلة باختصار شديد أوروبية صرفة، والحل عربي وعلى حساب الشعب العربي الفلسطيني.